بقلم حسن برني زعيم
المغاربة العارفون بشأن التعليم و غير العارفين به يتوقون – مثل كل سكان العالم- إلى تعليم يقدم الدولة ويضمن لأبناء الشعب حياة كريمة لينعموا بالشغل والصحة والأمن والرخاء وحسن المعاملات في الإدارة والخدمات.
وهذا لا يمكن أن يتحقق جله أو بعضه إلا بتعليم جيد واضح الغايات والأهداف.
غير أن الحديث عن إصلاح التعليم يجرنا بالضرورة إلى الحديث عن بعض المعيقات التي تحتاج هي الأخرى إلى دراسة جادة وبحث عميق من أجل التعريف بها وبيان خطورتها ووقوفها ضد أي تغيير ، سواء ما تعلق، منه ، بالتعليم أو بأي قطاع آخر، تلك هي “المدارس الأخرى” التي غالبا ما نغفلها أو لا نعيرها ما تستحق من اهتمام ، والتي تشكل صراعا خفيا معرقلا تختلط فيه المصلحة والتجاذب والمنافسة والتشارك!
ويمكن تقسيم هذه المدارس إلى عدة أقسام أرى أن أوجزها كما يلي:
أ – المدارس المهيكلة، والمقصود بها كل المؤسسات الثابتة في المكان، و الخاضعة للقانون ، والسائرة وفق منهاج وبرنامج ومقررات واستعمال زمن ، والتي تسيرها إدارة تتوفر على موارد مادية وبشرية خاصة أو بتعاون مع الدولة ، و التي يمسها ، هي كذلك ، جانب من الإصلاح، ومن هذه المدارس :
مدارس البعثات الأجنبية بالمغرب:
الملاحظ أن هذه المدارس تشتغل وفق أجندة خاصة أهم نقطة فيها أنها تهدف إلى تكوين أجيال مؤهلة لمتابعة الدراسات العليا بالخارج ، إذ يصعب على تلاميذ المدارس العمومية العادية مسايرتهم حاضرا أو مستقبلا، وغالبا ما يكون تلاميذ مدارس البعثات من طبقة مختلفة ماديا أو ثقافيا ، وهذا يبين أن هناك تعارضا صارخا يشبه ، إلى حد كبير ، الصراع الفكري والأيديولوجي، وربما الطبقي ، بين مدارسنا العمومية كما تريدها الدولة المغربية ، وبين مدارس البعثات ، وأما إذا تناولنا محتوى المقررات فنجد الفرق واضحا، مثلا، في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية والتربية الإسلامية وبعض المواد الأخرى ، مما يعني أن القيم التي تكرسها هذه المدارس مختلفة كثيرا عما تسعى المدرسة المواطنة إلى تكريسه، ومن هنا نجد المدخل لطرح السؤال التالي : هل توفقنا في تحديد ملامح ” المواطن الصالح ” الذي هو غاية التعليم في بلادنا؟
المدارس الخصوصية المفربية:
هناك مدارس خصوصية منضبطة لمقررات وزارة التربية الوطنية المغربية ، ولكنها تعرف وضعا مختلفا في إدارة شؤون التلاميذ من حيث الزيادة في عدد الساعات ، وتدريس اللغات الأجنبية مبكرا، وفي الهندام والأنشطة والخرجات الترفيهية والتربوية التي حرم منها تلاميذ المدارس العمومية بسبب حادثة سير، وقعت قبل سنوات ، وذهب ضحيتها تلاميذ وأساتذة ، كما أن هذه المدارس الخصوصية تتفوق، نسبيا ، على العمومية في مراقبة الآباء لأبنائهم وانضباط الأساتذة وعدم الغياب ، وكذا التعامل مع التلاميذ ، وهناك مدارس تتميز عن المدرسة العمومية بحراسة التلاميذ خلال الساعات الفارغة ، مما يثلج صدور كثير من الآباء ، وهذا ما لا تستطيع المدرسة العمومية أن توفره ، باستثناء التي تتوفر على داخلية أو دار للطالب ، على الرغم من قلتها وما يطبعها من نقص في الموارد ، وضعف في التدبير ، وسواء أحببنا أم كرهنا ، فإن لهذا التفاوت في النظرة إلى المدرسة الخصوصية وتلاميذها يشكل عاملا من عوامل التمييز بين أبناء المغاربة ، ويخفي صراعا من نوع خاص له بعض التجليات في المجالين الاجتماعي والثقافي على الأقل .
المدارس العتيقة أو مدارس التعليم الأصيل :
لا يخفى على المهتمين بميدان التربية والتعليم أن هذه المدارس في غالبها معربة وبرامجها ومقرراتها تختلف كثيرا عن برامج ومقررات المدرسة العمومية المزدوجة ، فهي تعتمد على تدريس اللغة العربية و القرآن الكريم والعلوم المتصلة به من حديث وتفسير وتجويد وغيره، وقل ما نجد بعضا من هذه المدارس يبرمج اللغات الأجنبية ضمن مواد التدريس، وهذا الوضع المختلف ، وشبه المنغلق على نفسه ، لا شك له أثر خاص في تكوين التلاميذ وفي نظرتهم إلى الأمور والقيم.
الكتاتيب:
هذا التعليم موجود، غالبا ، في البوادي والزوايا ، والغاية منه تحفيظ القرآن الكريم وتعليم علومه من تفسير وتجويد ، ومازالت وسائله تقليدية ومحافظة على أنماطها الأصيلة ، من حيث مراسيم التفوق والنجاح ، وقل ما نجد أحد الخريجين أو بعضهم يتابع دراسته العليا لأسباب تفاصيلها غير معروفة ، الشيء الذي يوحي للتلاميذ ، مسبقا ، بأن الأفق أمامهم محدود، ويحكم عليهم باتباع شعب خاصة ، بناء على ما تلقوه من معارف وعلوم من غير أن تتاح أمامهم فرص الاختيار وتغيير المسار، كما هي حال غيرهم من التلاميذ في المدارس الأخرى ، وفي هذا تجاهل لحق الاختيار و المساواة في طلب العلم .
المساجد: لا يخفى علينا الدور العظيم الذي لعبته المساجد في فترات حاسمة من تاريخ المغرب ، واليوم يمكن أن نجزم أن هذا الدور مازال قائما لو أحسنا استغلاله من غير غلو ولا تقصير، ذلك لأن الدروس التي يتلقاها المصلون – ومن بينهم تلاميذ وطلبة – أو مرتادو المساجد سواء يوم الجمعة أو في ما بين الصلوات قد يكون لها الأثر البليغ في تكوين شخصية متزنة لو اهتمت الوزارة الوصية بالتنسيق مع وزارة التربية الوطنية والقطاعات الأخرى ذات الصلة بالشباب والمستقبل ، بدل الاقتصار على تعليم الناس ، أو تذكير بعضهم ، بأمور العبادات .
مدارس التكوين المهني / الفندقة والسياحة والطيران:
هذه المدارس مختلفة كثيرا عن المدارس العمومية في التعليم الثانوي التأهيلي ، لأنها مدارس مهنية يلتحق بها الراغبون في العمل مستقبلا في أحد هذه القطاعات ، ولكل مدرسة أو مركز أو معهد خصوصيات توجهها طبيعة القطاع والأهداف من وراء التكوين ، والأكيد أنها ليست بالضرورة استمرارا لمضامين الدروس التي تلقاها التلاميذ في المرحلة الابتدائية والإعدادية ، بل إنها تتعارض معها في بعض الأمور ، لأن طبيعة العمل ومجاله يتطلبان التجرد من بعض القيم الدينية أو الاجتماعية.
مدارس التجارة والإدارة والتسيير:
على الرغم من أن هذه المدارس كلها عليا ، فإن ما يعنينا هو مدى الروابط القائمة بين ما تلقاه الطلبة في المرحلتين السابقتين من التعليم الابتدائي والثانوي ، ونعني بذلك أن كثيرا من الدروس التي تعلمها التلاميذ في المرحلتين المذكورتين لا دور لها في تكوينه بالمدارس العليا باستثناء اللغات، وأن هناك خللا ما في المناهج والبرامج يجب تداركه من أجل توجيه الطلبة في وقت مبكر نحو التخصص الذي يستطيع أن يساير فيه وليس فقط إرضاء لرغبته أو رغبة والديه ، وهذه ظاهرة غريبة عرفها التوجيه في السنوات الأخيرة ، وأن بعض أسبابه ترجع إلى رغبة الآباء في توجيه أبنائهم توجيها علميا من أجل ضمان منصب شغل دون احترام قدرات الأبناء ، ولعل هذا الاعتقاد مرده أن المدارس الأخرى قد تغلبت على المدرسة العمومية ، بالإضافة إلى وسائل الإعلام التي تنشر أخبار المعطلين وصورهم كل يوم.الشيء الذي يغرس في نفوس التلاميذ الإحباط ، فيتجنبون ، ما أمكنهم ذلك ، متابعة دراستهم في الجامعة العمومية.
والمثير في هذه المدارس أن استعمال اللغة العربية – وهي اللغة الرسمية حسب الدستور – غير وارد ، وهذا يطرح تساؤلات بخصوص الإصرار على تعليم هذه اللغة في مراحل الدراسة السابقة ، خاصة و أن خريجي هذه المدارس غالبا ما يشتغلون في مؤسسات مالية لا تستعمل اللغة العربية في معاملاتها، فهل استطعنا إلى حد اليوم معرفة أسباب هذا ” الانحراف اللغوي ” ومدى صلته بالهوية الوطنية والمستقبل؟
ب – مدارس غير مهيكلة، والمقصود بها ما يروج من أفكار ومعلومات سواء في إطار منظم أو عبر تيارات متناقضة أو متباينة أو متشابهة ، وقد تكون هذه المدارس ممثلة بأشخاص ،مثل القادة السياسيين ، أو جماعات دعوية أو جمعيات ، أوفئات يجمعها نوع العمل أو التخصص أو الهدف، أو الإيديولوجيا ، والواقع أنه من الصعب إحصاء هذه المدارس ولا الإحاطة بها ، نظرا لما تعرفه من تغيرات مطردة حسب الزمان والمكان، والقوة والضعف، و وفق المرحلة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبحسب مستوى الوعيين الفردي والجماعي، وهكذا يمكن بحث بعض منها ، كما نتصوره في المرحلة الراهنة، ومنها :
الإعلام بكل أنواعه:
لا يختلف عاقلان في أن للإعلام دورا كبيرا في تكوين شخصية الإنسان، فهو الذي يحاور أو يخاطب المدارس التي أشرنا إليها ، بل إن تأثير وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة صار بليغا ، فلو أحصينا الساعات التي يقضيها التلاميذ أمام شاشات وسائل الإعلام لوجدنا أنها تنافس الساعات التي يقضيها بالمدرسة أو مع والدية وإخوته، ولا شك في كون هذا الخليط من الأخبار والمعارف والقيم التي يمررها تساهم في اضطراب الشخصية في مرحلة التكوُّن ، وتؤدي بالتالي إلى صعوبة الاختيار أو الحكم على الأشياء والسلوكات ، والقيم والأخلاق ، مهما كانت ، في نظر بعضنا ، بسيطة كاللباس والأصدقاء ، وتنظيم الوقت وممارسة الرياضة ، والصحة والتدخين والزواج ، وغير ذلك كثير مما يمتد إلى التقاليد واللغة والهوية .وما يجب التنبيه إليه كمثال لتأثير وسائل الإعلام هو ” الانفلات اللغوي ” وأعني به النطق والحديث باللغة العربية الذي يتعرض للتشويه يوميا من طرف بعض مقدمي نشرات الأخبار في القناتين الأولى والثانية، بحيث أصبحوا عاجزين عن قراءة ما هو مكتوب أمام أعينهم ، كل ما نسمعه منهم تلعثم وأخطاء في الوصل والفصل ، وهمزة القطع وأخطاء النحو والنطق ، وتفخيم أوترقيق في غير محله ، مما يندى له الجبين ، ولا حسيب ولا رقيب ، حتى أصبحنا نشك في أن يكون الأمر مقصودا.فأين نتائج التكوين ؟ وماذا علمتهم المدرسة؟ وأين المصححون والمراقبون ؟ مما يعني أن المدارس غير المهيكلة قد تفوقت على الأخرى الرسمية المهيكلة ، وستكون لنا عودة للتفصيل في هذا الموضوع .
الجماعات الإسلامية:
المعلوم أن هذه الجماعات أغلبها دعوية ، ولها برامجها لتكوين أجيال المستقبل من أجل البقاء والاستمرار ، مثلها في هذا مثل الأحزاب،والملاحظ أن أثرها يمتد لينتشر بين التلاميذ والطلبة والأساتذة في كل مستويات التعليم ، وقد عرف المغرب بعض الأحداث في الجامعات وفي غيرها بسبب الصراع بين التيارات الإسلامية الدعوية وبين تيارات أخرى معاكسة.
التيارات الإديولوجية والحقوقية:
يبدو طبيعيا أن يتأثر قسم من الأبناء ببعض الحركات التي تتصور الحرية وحقوق الإنسان تصورا خاصا، من منطلق أن الحقوق ذات طابع كوني مستندة في ذلك على المواثيق التي وقع عليها المغرب في إطار حقوق المرأة والمساواة والحرية الفردية، وهذا التأثر لا يتوقف عند حدود الفرد المتأثر او الجماعة التابعة، وإنما يتعدى ذلك إلى مرحلة التناسل والمضاعفة ، تماما كما تؤثر في تكويننا المدارس الأخرى جيلا بعد جيل.
الأحزاب السياسية والتيارات التصحيحية داخلها:
كل حزب يشكل مدرسة خاصة ، وهذا أمر طبيعي مرده إلى مرجعية كل حزب على حدة ، على الرغم من الإطار القانوني الذي تخضع له جميع الأحزاب ، وما الصراعات المستمرة إلا دليل على الاختلاف بين مدارس الأحزاب ، والمثير في هذا الوضع أن هذه الصراعات تصبح ” وراثية ” وكأن كل حزب يفرخ جيلا متشبعا بمبادئ وأفكار يضحي ويناضل من أجلها ويتشبث بها مقتنعا ، للأسف ، أنها ، وحدها ، هي الخيار الأمثل .
البرلمان: بغض النظر عن اختلاف مستوى ممثلي الشعب ، يعد البرلمان المسرح أو الحلبة التي تتبارى فيها أفكار الأحزاب السياسية والجماعات الدعوية والمنظمات الحقوقية ، لأن من يمثل الحزب سيجتهد قصد نقل تصور حزبه لقضايا البلاد المختلفة ، هذا إضافة إلى رواسب تكوين شخصيته التي تطفو إلى الأعلى من حين لآخر ، فنكتشف أنه لا يدافع عن برنامج حزبه وتصوره فقط ، بل يلجأ إلى فرض أفكاره الخاصة ، لإقناع الناس بما يدعو إليه ، تماما كما يفعل المحامي في مرافعاته، وهذا وضع أقل ما يقال فيه أنه يمثل مدارس متناقضة ومتصارعة لم تكن كلها من “نتائج ” المدرسة العمومية.
النقابات:
ما يلاحظ في بلادنا أن أغلب النقابات تابعة للأحزاب السياسية مما يجعلها شبيهة بملحقات مدارسها ، في حين أن هناك نقابات تقول بأنها مستقلة ، ثم لا تلبث أن تذوب ضمن تيار إديولوجي أو حزبي، أو إعلامي ، وقد يكون ذلك ، في بعض الأحيان ،على حساب حق المواطنة المشترك بين المواطنين ، وذلك من خلال التعصب إلى الرأي وإلغاء الرأي الآخر، إما بمنطق السبق في الوجود أو الرصيد في النضال أو الشعبية.
ومن غير إطالة في بحث المدارس المتعددة والمتنوعة والمتصارعة سنقتصر على ذكر أسمائها ، ونترك الفرصة للباحثين في المجتمع والسياسة لتناول الموضوع بوسائل علمية أكثر دقة ، ونذكر من ذلك الجمعيات الفنية والرياضية والحقوقية، والمؤسسات المالية من أبناك وشركات الإيداع والتدبير، حيث تصبح للقيم مفاهيم متعددة ، غالبا ما تنحصر في المال والشهرة والنفوذ .
كما أن هناك مدارس أخرى تمثلها الهيئات المهنية والقطاعية كأرباب النقل وسيارات الأجرة والسائقين والتجار، والتي هي أيضا ، تشكل توجها ضيقا لا يتعدى الاستجابة لمطالبهم الخاصة .
وفي السنوات الأخيرة ظهرت “مدارس” غير مألوفة لها علاقة بالتأثيرات الخارجية بسبب العولمة والتطور المعلوماتي ، مثل المهاجرين العابرين والمستقرين ، ولجوء الهاربين من ويلات الحروب والقلاقل، ومن الطبيعي أن هؤلاء لهم تصور خاص للعيش في البلاد المهاجر إليها ، لا أعتقد أن المدرسة العمومية الرسمية وضعته في حسبانها.
يبدو أن كل هذه المدارس أو بعضها قد أثرت ومازالت تؤثر في تكوين شخصية المواطن المغربي ، مرة بالمنطق العلمي ، وأحيانا بمخاطبة العواطف ، وتارة بالتشويش وزرع التشكيك في كثير من الثوابت الوطنية والدينية والأسرية ، والسؤال المطروح هو : كيف يمكن لمن يفكرون في إصلاح منظومة التعليم أن يتصوروا ملامح هذا الإصلاح إذا كانوا سيقتصرون على النظرة التقليدية للإصلاح ويكتفون ب”استيراد” طرق للتدريس من بلدان أجنبية ، من غير أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه المدارس المحيطة بمجال التربية والتكوين ، والتي أصبح أثرها جليا في حراك الشارع وتناقضاته ومشاكله والأخطار المحدقة بالشباب ورهانات المستقبل، فما أحوجنا إلى تعليم يكون أساسا لنهضتنا ، قادرا على تحصين ثقافتنا وثوابتنا الوطنية .
لكن السؤال الذي يفرض نفسه أن هذه المدارس موجودة في كل دول العالم بما فيها الدول المتقدمة، فهل مثلت دور الصراع مع المدارس الأخرى الرسمية التي تشرف عليها الدولة وتراقبها؟
وجوابا على هذا التساؤل المشروع نقول إن الوضع مختلف تماما، لا بالنسبة للمنظومة التعليمية فقط ، ولكن أيضا بالنسبة للمدارس ” المصارِعة “، وذلك راجع بالأساس إلى درجة الوعي في الدول المتقدمة، وفي مدى احترام القانون ونجاعته، فالقانون والوعي في الدول المتقدمة يضبطان كل صغيرة وكبيرة بتوظيف الوسائل المتطورة في التكنولوجيا والإعلاميات ، فيضيق مجال الثغرات ويصعب التحايل ، هذا بالإضافة إلى ضمان حقوق المواطنين بالمساواة أمام القضاء وفي مجالات الحياة العامة وفرص الشغل والخدمات، وهذه كلها معطيات تحد من تأثير المدارس الأخرى في شخصية المواطن بفضل منظومة التربية والتعليم التي تستوعب كل التناقضات ، وبالتالي لا تجد المدارس “المصارِعة “المناخ السليم لتواكب إيقاع المدارس الرسمية، فتنهزم ويبقى أثرها محدودا ، بينما نجد تجليات تأثير هذه المدارس ، في بلادنا ، واضحا وفي المرافق العمومية والخاصة وفي الخدمات ، وكلما تفقدنا أحوال الشارع العام .
والأمثلة في هذا الباب كثيرة نكتفي بذكر مثال واحد منها يبدو نشازا غريبا ، وهو تربية الكلاب في مدينتي باريس والدار البيضاء:
فإذا كانت كلاب البيتبول ، أو ما يسمى بالكلاب البوليسية ، تشكل خطرا حقيقيا على سلامة المواطنين وأمنهم ، بما تسببه من ترويع للمارة والأطفال والنساء ، قد يتحول في أحيان كثيرة إلى اعتداءات سافرة في بعض أحياء الدار البيضاء، فإن الوضع في باريس مختلف تماما ، فهناك – أي في باريس- لا يشكل الكلب أي خطر على المواطنين ، لا من حيث الأمراض المعدية ، ولا بخصوص تهديد سلامة المواطنين وأمنهم ، لأن القانون واضح وتطبيقه صارم ، والوعي “فاعل”، والكلب “محترم “، وهو ما يدل على أن المدرسة قد انفتحت على محيطها ، واستوعبت المدارس “المصارعة ” وسيطرت عليها أو ، على الأقل ، تفوقت عليها و وجَّهَتْها.
وهكذا ، فإنه بإمكاننا ، بعد هذا المثال ، المقارنة في مجالات أخرى كالمقاهي والأسواق والحافلات والخدمات في المستشفى والمقاطعة والوزارة…وكلها تمثل أوجه صراع حقيقي بين مدارس متعددة ومتباينة في مجتمع يعج بالتنوع والاختلاف.