طوطو” وحدود الفن: حرية التعبير وسؤال الالتزام.

بقلم حسن برني زعيم
تكوين طوطو:
طوطو طه فحصي (ElGrande Toto) فنان مغربي ينتمي إلى جيل جديد من “ناطقي” الراب. تشكّل في فضاءات المدينة وأحيائها الشعبية، حيث اكتسب لغته الخاصة ومفرداته الحادة أحيانًا.
يعبر طوطو عن تجربته الشخصية وعن قضايا الجيل الذي يمثله، رافضًا النمطية والتكرار، ساعيًا إلى الابتكار بأسلوبه، حتى لو وُصف أحيانًا بالصادم أو الجريء.
هو ابن بيئته، تشرّب منها الصراحة المفرطة أحيانًا، لكنه يُظهر أيضًا طموحًا فنيًا في تطوير شكل موسيقي حديث يعبّر عن واقعه.
طوطو مغربي:
رغم كل الانتقادات التي وُجهت إليه، يظل طوطو فنانًا مغربيًا ينهل من لغته وثقافته وشارعه، ويتحدث إلى جمهوره بلغته اليومية.
يحمل في موسيقاه روحًا محلية واضحة، حتى حين يتأثر بالمدارس العالمية للراب.
هو مغربي في مرجعياته، في اختياره للدارجة، في استلهامه لحياة الحي، وفي رغبته في إثبات الذات داخل مشهد موسيقي عالمي.
يريد أن يؤكد أن المغرب ليس هامشًا بل مركزًا قادرًا على إنتاج فنه الخاص.
طوطو وحقه في التعبير الفني:
حرية التعبير حق إنساني أصيل يكفله الدستور والقوانين. وطوطو كفنان يملك هذا الحق في أن يعبّر بطريقته الخاصة.
الفن عمومًا مساحة للبوح، للتجريب، للتساؤل، وللصدام أحيانًا.
لكن حرية الفنان لا تعني أنه معفى من النقد أو المساءلة.
فكما يطالب بحقه في التعبير، يملك الجمهور الحق في القبول أو الرفض، في الإعجاب أو الاعتراض، في نقد المضامين أو الدفاع عنها.
حدود هذا الفن: القانون، الأخلاق، الذوق العام.
هنا يُطرح السؤال الجوهري: ما حدود حرية الفنان؟
القانون يرسم خطوطًا حمراء واضحة: التحريض على العنف، الإخلال العلني بالحياء، ازدراء الأديان، المس بالكرامة الإنسانية، وغيرها من الأفعال التي يعاقب عليها القانون المغربي (مثل المقتضيات المنصوص عليها في القانون الجنائي وقانون 47.22).
هذه الحدود القانونية تحمي المجتمع من التطبيع مع الفوضى.
أما الأخلاق والذوق العام، فهما أكثر مرونة. يختلفان باختلاف البيئات والأجيال، لكنهما يظلان محددين اجتماعيًا يوجهان النقاش حول الأعمال الفنية.
الفنان مطالب بالوعي بسياق مجتمعه، لا ليكتم صوته، بل ليختار كيف يوصل رسالته دون صدام مجاني أو إساءة غير مبررة.
ما رأي العادات والتقاليد؟
المجتمعات ليست كيانات جامدة، لكنها تحفظ عادات وتقاليد تمنحها هويتها.
حين يصطدم الفن بهذه التقاليد، قد يدفع إلى النقاش والتجديد، لكنه قد يثير أيضًا الرفض والغضب.
مسؤولية الفنان هنا أن يوازن بين رغبته في التغيير وحدود التلقي.
ليس المطلوب أن يكون الفن خاضعًا كليًا للعادات، لكن من الحكمة أن يحاورها بذكاء، وأن يعي أثره في الوعي الجماعي.
رأي الدين والشريعة:
الدين يشكل مرجعية أخلاقية قوية في المجتمع المغربي. الأعمال الفنية التي تمس المقدسات أو تخدش الحياء بمبالغة تثير حساسيات دينية حقيقية.
«ثوابت المجتمع» هنا تعني احترام المقدسات، صون الحياء العام، وتقدير المرجعيات الروحية الجامعة.
الإبداع لا يعني بالضرورة استفزاز هذه المشاعر.
يمكن للفن أن يكون حرًا، ناقدًا، وجريئًا، مع احترام هذه الثوابت، حرصًا على بناء حوار لا قطيعة.
الفن بين الحرية والمسؤولية: دعوة إلى تأمل أعمق.
الفن ليس ترفًا عابرًا أو صراخًا بلا صدى، بل هو مرآة للروح الفردية والجماعية.
هو مساحة للبوح، للتمرد، للبحث عن المعنى وسط فوضى العالم.
لكن هذه الحرية التي نرفعها شعارًا لا تولد في الفراغ، بل تنمو في تربة اجتماعية، قانونية، أخلاقية، وروحية.
حين يطالب الفنان بالحرية، فهو لا يطلب إعفاءه من تبعات صوته، بل يعلن استعداده لتحمل مسؤولية تأثيره.
الحرية الفنية الحقة ليست حرية الإساءة المجانية أو الاستفزاز الفارغ، بل حرية التفكير النقدي، زعزعة المسلمات بأدب، هز الوعي دون تمزيقه، وتوسيع أفق المعنى بدل تضييقه.
مجتمع مثل مجتمعنا المغربي، الذي يعتز بدينه وتقاليده ولغته، لا يحتاج إلى فن يمدحه نفاقًا، لكنه أيضًا لا يحتاج إلى فن يسبه بوقاحة.
إنه بحاجة إلى فن يحاوره بصدق، يواجهه دون تجريحه، ويفتح أمامه نوافذ جديدة لرؤية ذاته.
طوطو، كظاهرة فنية، يعكس صراع الأجيال، انفجار الأسئلة، وجموح الحرية.
لكنه مدعو مثل كل فنان إلى أن يطرح على نفسه سؤالًا صعبًا: ما الذي أريده حقًا من فني؟ هل أصرخ فقط لأُسمِع صوتي، أم لأُسمِع صوت زماني؟ هل أصدم لمجرد الصدمة، أم لأوقظ معنىً غافيًا؟
إن الفن الأصيل لا يهرب من الأسئلة، ولا يكتفي بإثارتها، بل يغامر بمحاولة الإجابة عنها.
حرية التعبير ليست معركة ضد المجتمع، بل حوارٌ شجاعٌ معه.
إنها تزعجه أحيانًا لكنها تحترمه، تهزه لكنها لا تهدمه.
في النهاية، الفن هو بحث عن الإنسان فينا جميعًا: في ضعفه وقوته، في خوفه ورجائه، في صمته وصوته.