أخبار وطنية ودولية

جيل الزاي واستحقاقات الغد: بين حماسة الشباب وشيخوخة السياسة.

بقلم: حسن برني زعيم

يبدو أن المغرب يقف على أعتاب منعطف سياسي جديد، مع بزوغ نجم “جيل الزاي” — الجيل الذي لا يعنى بالحروف بقدر اهتمامه بالتحولات التي ترمز إليها. جيل خرج من رحم التحولات الرقمية والاجتماعية، وها هو اليوم يلوح بعودته من بوابة السياسة، بعد أن فرض حضوره في الفضاء الافتراضي والشارع والثقافة .

جاء الخطاب الملكي في افتتاح الدورة التشريعية الخريفية، والمجلس الوزاري الأخير، ليرسخ مبدأ تجديد النخب وإشراك الطاقات الشابة في القرار العمومي، كاستجابة طبيعية لتطور المجتمع المغربي الذي لم يعد يقبل أن يدار بعقلية الأمس في عالم يتغير كل لحظة. غير أن هذا الانفتاح المعلن يثير أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة.
هل سيجد الشباب المغربي، لأقل من خمس وثلاثين سنة، موطئ قدم داخل الأحزاب القائمة، تلك التي شاخت وجوهها وتكلست آلياتها؟ أم سيبحث عن خلاصه السياسي في إنشاء أحزاب جديدة تعبر عن وجدان هذا الجيل ولغته وهمومه؟
وهل سيتحمل “القابعون” على كراسي القيادة في تلك التنظيمات هبوب ريح التغيير، وقبول نموذج شباب متحرر من منطق الزبونية والولاءات القديمة؟
إن المشهد الحزبي المغربي ظل، منذ عقود، مثار جدل لا ينتهي؛ إذ يتكاثر عدد الأحزاب كما تتكاثر اللافتات في موسم انتخابي بلا طعم. لكن هذا التعدد لم يرق إلى مستوى التنوع المرغوب ، لأن أغلب الأحزاب ظلت تشتغل بالذهنية نفسها، وتنتج الخطاب نفسه، وتعيد تدوير الأسماء ذاتها.
هنا يطل السؤال المركزي: هل سياسة الدولة نفسها مهيأة لهذا الوضع الجديد؟
فإشراك الشباب ليس قرارا إداريا ولا ترفا ديمقراطيا، بل رهان وجودي لدولة تراهن على الاستمرار الاستقرار عبر التجديد الذاتي في إطار الدستور والمقدسات وثوابت الأمة وموقعها في العالم . لكن هذا التجديد يحتاج إلى مؤسسات وسياسات حقيقية تمنح الثقة، لا إلى شعارات موسمية أو محاولات تجميلية لواجهة حزبية متشققة.
وأما “جيل الزاي”، فهل هو على نغمة واحدة فعلا؟ أم أننا أمام فسيفساء فكرية وثقافية متباينة قد تتسرب إليها عدوى الخطابات الشعبوية أو الإيديولوجيات المستعملة من بقايا أحزاب “الشيخوخة المتأخرة”؟
فالرهان ليس في عمر المترشح، بل في نوعية المشروع الذي يحمله، وفي قدرته على تجاوز خطاب الرفض إلى خطاب البناء.
لقد جربت الشعوب العربية من قبل حماسة التغيير دون هندسة عقلانية له. من تجربة الاتحاد الاشتراكي في المغرب، حين حذر الراحل الحسن الثاني رحمه الله من “الاقتراب من السكتة القلبية”، فكان من أولويات حكومة اليوسفي التهافت على الخوصصة .ومن ذلك أيضا إلى موجة “الربيع العربي” التي أسقطت أنظمة وأقامت أخرى لم تصمد، ومن نوذج حزب العدالة والتنمية في المغرب الذي لم يأت بجديد سوى الإجهاز على بعض المكتسبات كالتعاقد والتقاعد والمقاصة .ولا ننسى تجربة جبهة الإنقاذ في الجزائر، وصولا إلى تجربة الإخوان ومرسي في مصر…
كلها دروس تختصر فكرة واحدة: أن التغيير الحقيقي لا يكون بالعواطف، بل بالقواعد.
جيل الزاي اليوم أمام امتحان التاريخ: هل سيكون وقودا لإصلاح سياسي ناضج يفتح نوافذ الأمل، أم مجرد موجة رقمية تنكسر على صخرة الواقع؟
إنه سؤال الأجيال كلها، لكنه هذه المرة موجه إلى شباب يحمل الهاتف في يده والعالم في جيبه… فهل يحمل أيضا مشروع وطن في قلبه؟
إن ما يعيشه المغرب اليوم من دعوات متجددة لإدماج الشباب في العمل السياسي ليس حدثا معزولا ، بل هو نتيجة تراكمات تاريخية تمتد من مرحلة ما بعد الاستقلال إلى اليوم. فبين جيل “المقاومة والتحرير” الذي أسّس الدولة الحديثة، وجيل “الإصلاح الإداري والاقتصادي” في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، برز اليوم جيلٌ ثالث، هو “جيل الزاي” — جيل الرقمنة والعولمة والاحتجاج الافتراضي.
هذا الجيل لم يتكون في مدارس حزبية ولا في خلايا نقابية، بل في فضاء رقمي مفتوح، حيث المفاهيم السياسية تُدستهلك بسرعة الضوء، وحيث الوعي الجمعي لا يتشكل من خطب الزعماء بل من “ ترند” على منصة تواصل.
لذلك، فإن التحدي الأكبر لا يكمن في تمكينه من الترشح، بل في تأطيره فكريا وأخلاقيا ضمن مشروع وطني متماسك.
تاريخيا، فشلت محاولات تجديد النخب الحزبية في المغرب لأنها ظلت رهينة معادلة مزدوجة: هيمنة القيادات التقليدية من جهة، وضعف التربية السياسية للشباب من جهة أخرى. وقد شهدنا في تسعينيات القرن الماضي ما سُمي بـ“التناوب التوافقي” الذي جلب النخبة اليسارية إلى الحكم، لكنه لم يُنتج تغييرا عميقا في الثقافة السياسية، لأن النسق ظل نفسه.
اليوم، ومع تصاعد الوعي الرقمي والاحتجاج الاجتماعي، تبرز فرصة جديدة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والسياسة، بشرط أن يتم ذلك وفق رؤية مؤسساتية، تستند إلى إصلاح منظومة الأحزاب، وتجديد آليات تمويلها وتأطيرها، وربط المشاركة السياسية بمسؤولية اجتماعية واقتصادية حقيقية.ومحاسبة دقيقة لكل الأطراف الفاعلة في المجتمع .
إن إشراك الشباب في الانتخابات المقبلة، بناء على مخرجات المجلس الوزاري الأخير وتوجيهات الخطاب الملكي، لا يعني فقط فتح الباب أمام “دماء جديدة”، بل يستدعي إعادة تعريف السياسة ذاتها بوصفها خدمة عمومية، لا سلما نحو الامتياز أو الريع كما هي في رؤوس كثير من الفاعلين في الأحزاب والنقابات والجمعيات والمؤسسات الإعلامية على الرغم من كونها ترفع شعارات جيل الزاي في تأسيسها وحملاتها الانتخابية وهي مسجلة في برامج الأحزاب كلها من تعليم وصحة وشغل وحرية تعبير وعدالة اجتماعية وأمن وعدل. لكن لماذا لا تستمر في الدفاع عنها بعد تشكيل حكومة من الأغلية .فمن الأجدر بإن يُصدَّق؟ هذا الجيل أم الأحزاب والنقابات التي شاخت؟
فالشباب المغربي الذي خرج من رحم التفاوتات الاجتماعية والبطالة والإحباطات المتكررة، لن يرضى بأن يكون ديكورا انتخابيا، بل يسعى إلى ممارسة سلطة القرار والفعل.
ولعل التحدي الأعمق هو كيفية تحويل الحماسة إلى مشروع، والطموح إلى مؤسسة، والاحتجاج إلى اقتراح.
وهنا، وكما قال ابن خلدون، “لكل جيل من الناس في عمر الدولة حظ من النظر والعمل”، فهل يمنح جيل الزاي نصيبه في بناء الدولة الحديثة؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى