الحراك التعليمي بالمغرب .
بقلم محمد ماكري
تشهد الساحة التعليمية ببلادنا احتقانا غير مسبوق بسبب عدة عوامل أهمها استشعار نساءه ورجاله ” بالحكرة ” وخصوصا بعد تصنيفهم في الميزانية كمعدات للأكاديميات و اعتبار الموظفين منهم مجرد موارد بشرية مع جعل الجميع في أدنى سلم أجور الوظيفة العمومية .
إن التعليم ببلادنا كان ولازال قضية مجتمعية ، فمند إنهاء عهد الحماية المباشر اعتبر التعليم وسيلة أساسية لتحقيق الاستقلال الفعلي و أداة فعالة للرقي بالبلاد والعباد إلى مصاف الدول المتقدمة و قد تم وضع اربعة مبادئ للوصول الى هذا الرهان : التعميم ،التوحيد ، المغربة والتعريب … لكن الذي وقع هو تشويه لتلك المبادئ بل واستعمالها لتكريس تعليم فيئوي يسير بسرعات متفاوتة … ولقد اصطدم هذا النهج في البداية بإرادة شعبية في 23 مارس 1965 من خلال مظاهرة تلاميذية شارك فيها الآباء والاولياء ضد مذكرة وزير التعليم آن ذاك (بالعباس) تهدف إلى إقصاء العديد من التلاميذ بدعوى كبر السن ، وقد كانت بالفعل أول انتفاضة للشعب ضد قوى اعتقدت أن المغرب لها لوحدها علما أن هؤلاء هم في غالبيتهم من القوة التالتة حسب تصنيف أستاذنا محمد عابد الجابري و التي اصطفت إلى جانب المستعمر حينما كانت الحركة الوطنية تقاوم من أجل الاستقلال و كانت تعرقل كل ما تقوم به حكومة عبدالله إبراهيم من إرساء لأسس ودعائم الدولة الوطنية المستقلة فعلا بعد الاستقلال .
لقد تزامنت مظاهرة 23مارس مع اغتيال الشهيد المهدي بنبركة ،مما اضطر النظام الإنغلاق على نفسه معلنا حالة الاستتناء ،فانفجر من الداخل بانقلابين عسكريين 1971 و 1972 كادا أن ينهيا ملكية أبت الحركة الوطنية ومعها الشعب المغربي إلا أن تتمسك بها وبرمزها المغفور له محمد الخامس. … وبعد ذلك شهدت البلاد نوعا من الانفراج الحذر الذي بدأ مع ما سمي بالمسلسل الديمقراطي عكسته انتخابات 1976و1977 الجماعية والتشريعية رغم مقاطعة التصويت على دستور 1972 من طرف القوى الوطنية وعلى راسها حزب القوات الشعبية اي الاتحاد الاشتراكي بعد مؤتمره الاستتنائي سنة 1975 وقد كانت من نتائج هذه الانتخابات فبركة حزب جديد يدعى” الأحرار” جمع كل المترشحين” المستقلين الفائزين ” في الانتخابات التشريعية .وبالرغم من كل ذلك ستعود الدولة لقمع اشرش مما سبق وخصوصا بعد تأسيس الكدش سنة 1978 حيث سيتم إذلال حقيقي لنساء ورجال التعليم المضربين في 10 / 11 أبريل 1979 في إطار النقابة الوطنية للتعليم /الكدش ،إذلالا وصل حد إقامة “الفلقة ” لجلهم بالملحقات الإدارية تزعمه رجال سلطة ناقمين على معلميهم وبتعليمات من واجهة المخزن آن ذاك السيء الذكر إدريس البصري وزير الداخلية . هذا الوزير الذي دخل التاريخ فعلا سنة 1981 حينما وصف شهداء أحداث 20يونيو من نفس السنة،،” بشهداء كوميرا ” كتحقير منه لتلك الانتفاضة المجيدة التي ذهب ضحيتها ازيد من ألف شهيد وشهيدة على اثر اضراب عام دعت له الكدش . وتوالت سنوات القمع والتنكيل بعد احتحاجات شعبنا في 1984 أدى ثمنها كافة الشعب ومن بينهم نساء ورجال التعليم بزيادة ساعات” تضامنية تطوعية” بلا تعويض دون الحديث عن إجبارية المغاربة أجمعين على المساهمة في بناء مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء .
يتبين مما سردنا آنفا أن الحاكمين صنفوا التعليم العمومي كقطاع للسيبة في دولة المخزن واعتبروه مشتلا للمعارضة ينبغي التخلص منه وتزامن ذلك مع سياسة التقويم الهيكلي التي فرضت التقليص من النفقات على القطاعات الإجتماعية. وبدأت عملية احتواء التنظيمتات والنخب اليسارية مع اعتقال العديد منهم وخصوصا من قاوم الإغراءات ، فيما تخلت بعض القوى اليسارية عن تنظيمات جماهيرية كالاتحاد الوطني لطلبة المغرب و في المقابل وجدت من يمثلها في نقابة الباطرونا بل تحمل بعضهم مناصب كانت حكرا على اعضاء القوة الثالثة كوزير او رئيس لمؤسسة الشبيبة والمستقبل مثلا بالموازات مع خلق حزب جديد يحمل اسم “الاتحاد الدستوري ” تراسه الوزير الأول الذي كان عضوا بارزا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية “المعطي بوعبيد ” ومعه خليط من مسيريي فريق الرجاء البيضاوي لكرة القدم .
وبالعودة إلى ميدان التعليم فبعد إحداث المدارس العليا للاساتذة وقبلها مراكز تكوين المعلمين واساتذة السلك الإعدادي قامت الدولة بتعريب للمواد العلمية بأساتذة تكوينهم فرنسي تلقوا إعدادا سريعا من طرف أطر مفرنسة ويبقى الأغرب ما في الأمر أن التعريب وقف في حدود الثانوي الشيء الذي جعل الطلبة يضطرون إلى بدل الجهد جهدين كي يتابعوا دراستهم الجامعية .
لقد عرفت تسعينات القرن الماضي مخاضا عسيرا لولادة تناوب توافقي يقحم حزب القوات الشعبية في الحكومة ليؤمن مستقبل الملكية بعد الملك الحسن الثاني الذي كا ن يعاني من مرض مزمن ولكن هذا التناوب كان سببا في انقسامات مزلزلة في صفوف كل أحزاب اليسار قبل حدوثه رغم انه حقق الهدف بعد ذلك ( انتقال سلس للملك )، لقد بدأت هذه الفترة بإضراب عام للكدش واع ش م سنة 1990 بالتوازي مع فقدان الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد ، و بتعديل دستوري لمرتين مع جبر ضرر ضحايا سنوات الرصاص ومن بينهم نساء ورجال التعليم المطرودين سنة 1979 وحوار اجتماعي أفضى إلى اتفاقية فاتح غشت 1996 مع الكدش بقيادة الزعيم النقابي محمد نوبير الأموي الخارج لتوه من السجن و التي انصفت جل الموظفين من خلال زيادة في الأجور وترقية المستحقين منهم …. وللتاريخ فقد قامت حكومة اليوسفي بتنفيذ كل التزامات الدولة في هذا الشأن .
جاء العهد الجديد يحمل معه انتظارات كبيرة ، لكنه اصطدم بالخروج عن المنهجية الديمقراطية وفق حزب الاتحاد بعد تعيين السيد إدريس جطو المستقل في منصب الوزير الأول ورغم ذلك شارك الاتحاد في حكومته بعد استقالة اليوسفي وانتقاده فيما بعد لتجربة التناوب التوافقي و يمكن اعتبار ذلك كنهاية مرحلة أحزاب الحركة الوطنية وبداية التطبيع الفعلي مع الأحزاب التي كانت تنعت بالادارية الشيء الذي شجع الحاكمين الجدد على تأسيس حزبهم الأصالة والمعاصرة وهو إجراء عادي وضروري في ظل ملكية تنفيذية يلزمها وسائل لتنفيذ سياستها وفعلا كان الحاكمون يعدون هذا الحزب لترأس الحكومة بعد عباس الفاسي عن الاستقلال لولا اندلاع الربيع العربي مع حركة 20 فبراير 2011 .و التي كانت فترة للنضال ارغمت الحاكمين على تعديل الدستوري قاطعته احزاب يسارية ،وحوار اجتماعي من نتائجه الزيادة في أجرة كل الموظفين 600 درهم وتوظيف حملة الشواهد اضافة الى العديد من المكتسبات … لكن تيار الإسلام المخزني ( العدالةوالتنمية ) المرغوب فيه امريكيا في منطقتنا العربية في تلك المرحلة والذي كان ضد حركة 20فبراير حال دون تحقيق تلك المكاسب بل اجتهد في الإجهاز على كل المكتسبات السابقة وحقق المخزن في عهده ما لم يكن يحلم به ك”اصلاح “التقاعد و الشروع في خوصصة عملية للقطاعات الإجتماعية من تعليم وصحة وفصل التكوين عن التوظيف والتعاقد في التعليم و الأجر مقابل العمل وتحرير اسعار المحروقات وتقليص دعم صندوق المقاصة و….. وقد ختموه بتوقيع على التطبيع مع الصهاينة ..لكن حركة عشرين فبراير لم تمت كفكرة لانها كانت بمتابة تربية للمواطن على الاحتجاج والصمود في مواجهة كل أشكال القمع فتحول الاحتجاج الوطني إلى احتجاجات جهوية كحراك الريف ،جرادة.زاكورة .. وبعد ذلك إلى حراكات احتجاج قطاعية في الصحة والتعليم والمحاماة الخ . وما نشهد اليوم من صلابة واستمرارية وصمود في قطاع التعليم إلا تعبيرا على ما نحن بصدده .
لقد شهد التعليم ببلادنا إصلاحات متكررة اهدرت اموالا كثيرة بدءا من مناظرة ايفران الأولى و الثانية مرورا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين تم البرنامج الاستعجالي وانتهاء بالرؤيا الاستراتيجية مع قانون الإطار .. كما عرفت طرق التدريس والبيداغوجيا إصلاحات دون دراسة مسبقة بدءا من التدريس بالأهداف مرورا بالكفايات وانتهاء بالادماج… والغريب في الأمر أن كل هذه المحطات الإصلاحية لم تخضع لا لتقييم ولا لمحاسبة….
خلاصة القول هو أن الدولة لم يكن لها أي مشروع للإصلاح سوى الخضوع لاملاءات الصناديق الدولية مع الحيطة والحذر والتحكم في الخريجين و تحويل التربية والتعليم إلى سلعة تباع لمن يدفع أكثر الشيء الذي جعل تعليمنا يعيد إنتاج نفس الطبقات وبالمقابل فالقمع الذي مورس ويمارس لا يخلق إلا المزيد من المواطنين المؤمنين بقضاياهم العادلة خصوصا إذا كانوا من نخبة المجتمع كنساء ورجال التعليم ، فهم اليوم يدافعون عن المدرسة العمومية من خلال تشبتهم بالبقاء ضمن الوظيفة العمومية و بتعبير آخر فالتعليم العمومي هو من مسؤولية الدولة أولا وأخيرا و لم ولن يخضع لمنطق الربح والخسارة الآنية على اعتبار أن الأمية والجهل هي الهلاك والتعليم هو الوسيلة الوحيدة للتنمية والنمو و للرقي المجتمعي . أما المحاولات المتكررة للقضاء على العمل النقابي من خلال حوارات مغشوشة وإشعار الشغيلة بانهزامية القادة وانبطاحهم بل العمل فقط من أجل مصالحهم كل ذلك لن يجدي نفعا أمام مركزيات لها تاريخ عريق في التعاطي مع مطالب الشغيلة والتضحية من أجل تحقيقها .. فالقضاء على أحزاب الحركة الوطنية واليسارية لن يتكرر مع النقابات بل إن اليسار استفاق و بدأ في العمل على وحدته والمثال على ذلك فيدرالية اليسار الديمقراطي لمواجهة مخططات المخزن التي تستهذف القضاء على كل التنظيمات المستقلة التي لها شرعية نضالية وتاريخية واستبدالها بأخرى مصنوعة بأدوات ريعية .
لقد كانت حركة عشرين من دون رأس ولم يدعي اي تنظيم قيادتها او توجيهها ما عدا الذين يتناوبون من الشباب على رفع الشعارات وكذلك الذين يترأسون منهم الجموعات العامة ولا ننسى دعم أحزاب اليسار والكدش في وضع مقراتهم رهن اشارتها وكذا الدعم المادي .وقد ارجع العديد من المحللين فشل ما سمي بالربيع العربي إلى غياب قادة للحراك …وما شاهدنا وما نشهده اليوم من حراكات ببلادنا كحراك التعليم والتي اعتقد انها من وحي حركة عشرين فبراير ،كلها تقريبا يتزعمها العديد من الرؤوس تظهر باستمرار على شبكة التواصل الإجتماعي من دون معرفة الطريقة التي اوصلت هؤلاء إلى ناطقين باسم هذا الحراك.
إن الدولة بعد قمعها العنيف لحراك الريف شجعت هكذا نهج حينما التقى رئيس النموذج التنموي، وزير التعليم الحالي بنموسى مع ناشطين في شبكة التواصل الإجتماعي لأخد رأيهم في الموضوع والسؤال المطروح لماذا لم يأخد رأيهم في موضوع النظام الأساسي؟ تم إن الدولة التي جعلت جل الأحزاب السياسية كائنات تابعة و مجرد كومبارس في مسرحية الانتخابات و واجهة حكومية ليس إلا ، هي اليوم تسعى لفعل نفس الشيء مع النقابات لكنها وجدت نفسها في مستنقع الفيئوية بتنسيقيات قد لا يتوقف عددها نظرا لكثرة المشاكل التي تنتجها سياستها المرتجلة في قطاع حيوي مرتبط بكل الأسر كالتربية والتعليم .
لهذا فمحاولة تصفية العمل النقابي الجاد والمستقل واستبداله بتنظيمات تحمل اسم نقابة تابعة و ذيلية، لن يجدي في ما تهذف له الدولة من تحكم كلي وقد أكدنا فيما سبق أن هذا هو الذي سميناه انغلاق الدولة على نفسها لن يؤدي إلا إلى انفجارات داخل النظام نفسه .
أقول في الأخير للساخطين على العمل النقابي من رموز لهذه التنسيقيات ،إن مشكلتكم مع الوزارة والحكومة ونضالكم مرغوب فيه ولكن لا يمكن أن يكون ضد هذه النقابات رغم الانتقادات الموجهة إليها ففي آخر المطاف قد تتحول هذه التنسيقيات إلى نقابة، و منه فممارسة العمل النقابي هو من حق الجميع .
كما اقول للذين يستقوون بمناصبهم الحكومية للتهجم على المواطنين الذين يطالبون بحقوقهم، إنكم لستم الدولة لأن الدولة حسب التعريف القانوني تتكون من تلاتة ركائز الأرض والشعب وحكومة يفرزها الشعب ، فعن أية دولة تتحدثون حينما هددتهم كل من يحاول لي ذراعها، وانتم توجهون كلامكم للشعب ،؟ فالشعب هو ركن أساسي من أركان الدولة لذلك عليكم مراجعة دروس الأولى حقوق كي لا تكرر مثل هكذا أخطاء.
بقلم محمد ماكري