مجتمع

بين حرية التعبير وفوضى الرأي: حين يتكلم الجميع في كل شيء

بقلم: حسن برني زعيم

في زمنٍ لم يعد فيه الصمت من ذهب، ولا الكلام من فضة، تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات مفتوحة يتبارى فيها الجميع في تحليل السياسة، وتشريح الدين، وتقويم التعليم، وتوجيه الاقتصاد، حتى باتت “الكفاءة” عملة نادرة في سوق تعج ب”الآراء” أكثر مما يعج بالحقائق.

هذه الظاهرة ليست وليدة الصدفة، بل هي ثمرة من ثمار الثورة الرقمية التي جعلت من الهاتف الذكي منبرا عالميا، ومن كل مستخدم “مُحللا” و”ناشطا” و”خبيرًا” في آن واحد. لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاح: هل حرية التعبير تعني أن نتحدث في كل شيء ولو بدون أدنى مستوى علم في هذا الشيء؟

ما بين الحق والمسؤولية:

إن حرية التعبير مبدأ مقدس في الشرائع السماوية والقوانين الوضعية على حد سواء، فهي تجسيد لكرامة الإنسان وعقله وحقه في التفكير والتعبير. غير أن هذه الحرية، حين تمارس بلا وعي أو ضابط، تتحول إلى فوضى “معرفية” تهدد الوعي الجمعي وتربك الرأي العام والأجيال الصاعدة خاصة.

لقد شاهدنا، في السنوات الأخيرة، كيف باتت الأكاذيب تقدم في ثوب الحقائق، والجهل يتزين بلسان العلم، فصار من السهل على أي شخص أن “يفتي” في الدين، أو “يحلل” السياسات، أو “يقوم” التعليم، دون أن يكون له أدنى اطلاع على خلفيات هذه المجالات أو تعقيداتها.

القانون بين القيد والضمير:

في خطوة مثيرة للجدل، أقدمت الصين على سن قانون يمنع غير المتخصصين من الخوض في مجالات علمية أو فكرية أو سياسية لا يملكون فيها خبرة أو تكوينا أكاديميا. وقد أثار هذا القانون نقاشا عالميا حول ما إذا كان ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان، أم أنه انتهاك للحق في حرية التعبير.

فمن منظورٍ حقوقي محض، قد يبدو هذا تقييدا للفكر، لكن من منظور اجتماعي وقيمي، فهو محاولة لضبط فوضى الرأي وإنقاذ المجتمع من التضليل. وهنا تكمن المفارقة: كيف نوازن بين حرية التعبير وواجب التخصص؟

التوعية قبل التشريع

ربما لا يكون الحل في المنع أو العقوبة وحدهما، بل في التربية الإعلامية وتحصين العقول بوعي نقدي يميز بين الرأي والمعلومة، وبين الخبير والمدعي. فالقانون لا يغني عن الوعي، كما أن الحرية بلا مسؤولية تصبح سلاحا ضد نفسها.

إن المجتمع الذي يريد بناء رأي عام راشد لا بد أن يربي أبناءه على السؤال، لا على الجدل؛ على البحث، لا على الضجيج؛ وعلى الحوار القائم على المعرفة، لا على الانفعال.

حين يتحول الجهل إلى مهنة:

ومن أخطر مظاهر هذه الفوضى أن بعض الأشخاص حولوا الجدل العقيم إلى مورد رزق رقمي، وصاروا يجنون من بث الجهل والاستفزاز ما لا يجنيه العالم من بحوثه. لقد أصبح “الارتزاق من وسائل التواصل الاجتماعي” سببا مباشرا في انتشار المحتوى المضلل والمثير للانقسام.

مخدرات العصر ومأزق القيم:

ما معنى أن يستفيد ناشر محتوى ضعيف أو منحط أو مضلل لمجرد أن عدد المشاهدات مرتفع؟ أليست هذه أمراضا نفسية يعاني منها المؤلف والمتلقي في آن؟ أليست هذه مخدرات العصر؟

ما معنى أن ينشر تافه بعشوائية وبلا ضوابط قيمية ويجني آلاف الدولارات؟

إنها صورة مرعبة لاختلال منظومة القيم، حين يكافأ السخف ويهمش العمق، وحين تقاس القيمة بعدد النقرات لا بوزن الفكرة.

نحو حرية مسؤولة:

نعم، الحرية حق مقدس، لكنها لا تمارس في الفراغ، بل في مجتمع له قيمه ونظمه. وكما لا يسمح لغير الطبيب أن يجري عملية جراحية، لا ينبغي لغير العارف أن يصدر فتاوى فكرية أو سياسية تجر وراءها آلاف العقول إلى الهاوية.

الحرية ليست أن تقول كل ما تشاء، بل أن تقول ما تعلمه، بما يضيف إلى الحقيقة ولا يطمسها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى