شغب الرباط بين الضياع وجيل الضباع

بقلم : عبد الحكيم البقريني

عرف ملعب سيدي محمد بن عبد الله بالرباط العاصمة ، عقب مباراة الجيش الملكي والمغرب الفاسي أحداث شغب وعنف وتخريب تعجز الكلمات عن الالمام به . إنها العودة للهمجية الأولى لما قبل الأخلاق والقيم ، أو بمعنى آخر تهاوي القيم وسقوطها . ما وقع يقتضي وقفة تأمل ، ودراسة . إذ المقاربة الأمنية والمحاكمات لم تعد مجدية ، فمثل الأحداث وقعت قبل أسابيع بسوق أسبوعي بالقنيطرة ، ونفس المشهد لوحظ بأسواق معدة لعيد الأضحى سابقا … فتكرار الأحداث ينذر بعاصفة خلف الرماد ، وأننا أمام ظاهرة تغزو الشارع المغربي ، عنف دموي ، ونهب تعددت أسبابه ومسبباته ، لكن خلاصته : سقوط القيم وتهاويها ، والتخلي عن الطابع الإنساني بشكل عام ، وعن التمغربيت بشكل خاص .
إن تناسل مشاهد العنف وتكرارها ، وتقاربها الزماني والمكاني يحيلنا لصرخات وتنبيهات رجال ونساء التعليم حينما دقوا ناقوس الخطر بعدما استشعروا ميل الناشئة للعنف ( وإن كانوا أول ضحاياه) ، لكن دعواتهم قوبلت بمذكرات البستنة ، ونشرات قللت من الخطورة ، على غرار تجاهل تحذيراتهم لما يدور بمحيط المؤسسات التعليمية من بيع للمخدرات بتقسيط التقسيط . أمام هذا التجاهل تناسل العنف ، وعظمت وسائله ، وظهرت بشاعته يوم الأحد بمشاهد قذرة ومقززة … فلا أحد التقط رسائل رجال ونساء التعليم حينما نبهوا للمخاطر المحدقة بمنظومة القيم والأخلاق ، وبتمغربيت . إنها ثمرة مُرَّةٌ من ثمار تجاهل السلطات لنبض المجتمع ، وخاصة للفئة المثقفة والمتنورة .
ما وقع يوم الأحد إعلان عن تهاوي وسقوط منظومة القيم ، وبروز جيل الضباع ، ومحاولة منه لإثبات وجوده ، وكأن واقع الحال يقول : ” أنا الجاهل ، المهمش ، المدمن على المخدرات ، لا حظّ لي في الثروة ، ولا في القيم . أنا بينكم . أنا الضياع . أنا هنا و هناك .. أنا موجود ” .
لا يختلف عاقلان في وجود هؤلاء بيننا ، بيد أن سجنهم واعتقالهم لن يغير شيئا .. ما أحوجنا لدراسة الظاهرة والاعتراف بالأخطاء المرتكبة في حق الناشئة ، وإرساء منظومة القيم بالمدارس ، وبالشارع ، وبالمسجد ، وبكل المؤسسات العمومية وغيرها … ما أحوجنا أكثر من أي وقت مضى لإعادة التوهج لتمغربيت بمعناها الحقيقي ، تلك الروح الحياتية الجماعية المبنية على القيم الكونية النبيلة . ما أحوجنا لتأطيرهم بدل استغلالهم في المناسبات ، فمثل هؤلاء يستعان بهم في الانتخابات ، لترهيب المثقف ، والمرشح النزيه ، والناخبين على حد سواء .. مثل هؤلاء زبناء أوفياء لتجار المخدرات بكل أصنافها وأنواعها . هؤلاء ضحايا سياسة حكومية فاشلة مغيبة للبعد الاجتماعي .. هؤلاء ضحايا تنظيمات حزبية ونقابية لا ديمقراطية تكرس العزوف ، بدل التأطير والاحتضان .. هؤلاء ضحايا مدرسة اختزلت رسالتها في تقديم المعلومات ، بدل التربية على القيم .. هؤلاء ضحايا مسجد يفتح أبوابه للصلاة فقط ، بدل الحث على مكارم الأخلاق .. هؤلاء ضحايا آباء همهم الانجاب ، وتناسوا أدوارهم التربوية والتهذيببة .. هؤلاء ضحايا شارع غابت عنه القيم ، فبعدما كان مدرسة حياة ، الكل يساهم في التربية ، الجار والجارة ، وصاحب الدكان ، والحارس الليلي … ظهرت الفردانية ، وتضخمت الأنا ، وتلك آفة أخرى لا يتسع المقام لذكرها .. هؤلاء ضحايا الضياع ..
إن التمغربيت لحمة ولمّة قل نظيرها كونيا ، قوامها الوحدة الجماعية ، والتضامن المطلق ، والوضوح ، فالروح المعنوية والمادية الجامعة بين أطياف الشعب المغربي .. بيد أن روح التمغربيت تعرضت خلال العقدين الماضيين لسلسلة من الطعنات والهجمات ، فخفت بريقها ، ليظهر الجيل الهجين . منضخم الأنا ، فارغ دينيا وروحيا ، ملتصق الاقدام بتربة مغربية ، منشطر روحيا ، بلا هوية ، أو متعددها .. ولعل هذا الانزياح عن الهوية المغربية المتأصلة ، وتقمص هويات أخرى شكل انشطارا للذات . لذا وجب الانتباه للظاهرة ومعالجتها كمدخل أول لمعالجة مشكلات العنف ، وأعطاب المجتمع عموما ، والناشئة خصوصاً ، في أفق الحد من انتشار وتناسل جيل الضباع .

Exit mobile version