حسن برني زعيم .
– عدد الصفحات : 95
العتبات النصية
عتبات النص حبلى بالاشارات الدالة الموحية بوجود علاقة جدلية بين خارجه وداخله.. واول شيفرة رمزية تشد الانتباه متجلية في ” العنوان” الذي يبدو انه وضع في تناغم وانسجام كبيرين مع النص، بصفته اداة مهمة في استقطاب السياقات الأخري.. ف” في سبعة أيام” شبه جملة متعلقة بفعل السرد كمفهوم لغوي يتضمن معنى الاتساق والتتابع الذي يشمل عددا من المحكيات ضمن إطار زمني محدد في سبعة أيام ، مع ما لهذا الرقم من حرمة وقدسية في التراث بل والتاريخ الإنساني، تواترت أربع مرات.. وفي تفاعل جلي مع المَثَل العامي – عبر نبش ذاكرتنا التاريخية- المدرج في آخر التقديم الذي كان- لعبة العتمة والضوء- توجيها إلى ضرورة تلمس بؤر الضوء في دهاليز الحياة المظلمة، عبر استخلاص حِكَم تكون زبدة تَفَكُّر وتدبر:(” ادير سبعة في ربعة” ، وتحكي للانام في سبعة أيام).. زد على عدد المحكيات المعنونة في فهرس الكتاب، والموزعة على عدد الايام عبر اربعة أسابيع. محكيات تحيل أدمغتنا إلى قصص التراث الشعبي الذي جاء على لسان الجدة، والتي أجمع جل العلماء والمختصين على فعاليتها في التربية والتكوين والتنشئة،عبر اتصال مباشر بصري وانفعالي بجيل يُرام توجيه خطاه في إثارة عجيبة لمخيلته التي تنقله إلى عوالم سحرية وأماكن بعيدة ينسج الوانها ومشاهدها وخلفياتها بنفسه. مبدأ رسخه الإهداء المعلن عن قدسية ونبل رسالة التعلم والتعليم وصناعة النشء وصقل العقول بالانفتاح على كل مكونات الثقافة.. تلك إشارات دالة ترشدنا إلى متن النص وتساعدنا على استكشاف ما ينطوي عليه من معان ودلالات غائبة او مغيبة، لكن بانزياح عن ذلك الزمن من أجل تأسيس زمنية جديدة تهيئ للتجارب التي ستروى بؤرتها وإطار وجودها، رغم الحفاظ على الجدة شخصية محورية فاعلة فضلا عما يمارسه الراوي من مؤثرات.وهو انزياح ارى فيه رسالة بينة مفادها أن تلك المحكيات حاضرة مثل الحياة، متجاوزة للتاريخ والثقافات بكل حمولاتها النفسية والاجتماعية والتاريخية رغم الفروقات المسجلة بين المنطوق والمكتوب..
■■ متن المحكيات:
منظومة المدرسة والمجتمع
عناوين المحكيات كفيلة بوضعنا أمام حزمة من المفارقات وأولها”الثور والمدرسة” ص9 الذي يدل على عدم التناسب، بل والصراع بين منظومتين رئيسيتين تخضع إحداهما لمبادئ أخلاقية وإنسانية وتقوم الثانية على أسس مادية وفردية وأنانية. ولذلك لم يجد بطل القصة امام عجزه في مواجهة ثور الشارع – وحيدا – الذي اسقطه أرضا إلا ان ينهال على المدرسة سبا وسخطا”تابع المسير وهو يلعن المدرسة التي علمته كيف يأكل الزبدة، ويشرب اللبن، ويسب الجيران، ولم تعلمه كيف يصارع الثيران.” ص 10. وتلك مفارقة بعوامل متعددة ومتشعبة تضع المدرسة أمام تحد صعب يقزم دورها كحلقة أساسية في بناء المشروع المجتمعي، إن سلمت من معاول الهدم طبعا.. ” قطار ومدرسة”، بحي” مزدحم بالمهاجرين من القرى القريبة من المدينة؛ بناء تراكم بعضه على بعض، ولم يشد بعضه بعضا، سويقات هاربة، وعربات تخطفها الدواب…” ص 11 حيث تصارع أم موسى كغيرها من القابعين بالمكان شظف العيش ببيع ما جاد به دكان الحاج مبارك” الهمزة”، طوافة عبر الأزقة والدروب والامل يدفع خطاها كل يوم مساءً لتنتظر خروج موسى من مدرسة اصبح من الضروري هدمها وترحيل تلامذتها لتأمين ممر القطار..وهنا تنتفض المدرسة ” حديث المدرسة” ص 13 – بل والكاتب وبمرارة من خلال تقنية التشخيص- أمام سؤال الجدة الوجودي :” من أنت؟”، متمردة و مدافعة عن كينونتها ووجودها وقدسيتها التي تتجاوز كل الازمنة والامكنة :” لا يستطيع أحد أن ينساني، فأفلاطون يعرفني، وحمو رابي يحترمني، وعنترة والمتنبي يقولان الشعر فيّ، وابن خلدون يؤرخني، ونيرودا يمجدني ، وشكسبير يخرجني للوجود كل لحظة….” ص 13 ، ولكن بتدمر وشكوى من حاضر وزمان :” أتاني بأبناء لا يشكرون…. فإلى متى ساظل صامدة من غير معين، والقرون ماضية، والارض باكية شاكية.. وأنتم يا حاضرون، غائبون.. فماذا تصنعون؟ ” والقول الفصل على لسان الجدة:” لا يشعرون.. لا يعلمون.. لا يعقلون.. “. هكذا وفي ٦مكامن كثيرة من المحكيات تَمَثَّل الكاتب هموم المدرسة بأبعادها التربوية والثقافية في بناء مواطن بأهداف ومشروع ذاتي متصالح مع المشروع المجتمعي..
& نقد الظلم والعبثية والغباء
بحس نقدي عال وعين متربصة للكثير من عاهات المجتمع عرى الكاتب نقائص الواقع المفعم تهميشا” الخرقة ” ص 54 ،وتشظيا بين متطلبات حياة تعسرت ومداخيل هزلت ” الوسيط” ص 62، وفسادا وعدمية وتفاوتا طبقيا صارخا ” الصيف البارد” ص 60، وتباهيا براقا أجوف ” دخان الرفاهية” ص 31 وغباء بل وعبثا سياسيا أرعن” نقطة نظام” ص20 وإداريا ” الشهادتان” ص 52، وتحللا من المسؤولية الجادة ” خطبة الأوزون” ص 20، وتبخر أحلام الناس….. وما يخيم من مشاعر الخيبة والتذمر والإحباط والإحساس بالدونية وعدم القيمة ” بائع الزمن” ص 59 وكأن الواقع نفق بل حفرة – تمردت كما المدرسة – تجسدت انعكاساتها من خلال محاورتها . حَفْرٌ سكن أمكنة وأزمنة الواقع فصيّره الكاتب ظاهرة كونية بأبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية بل وحتى نفسية ، نظرا لتبعاته التي تمس الوجود البشري بامتداده الإنساني. :” أنا الحفرة التي تبحث عن حافرها منذ عقود في زمن الحفر….. أنا وحدي أقاوم العجلات واللعنات..” ، والهادمون عفوا الحافرون المتعالون المستبدون محلقون خارج حسابات المواطن الإنسان، داخل كل المناورات المُوقِعة بالأبرياء في شرَك السطو والظلم والحرمان.. يسكنون الأبراج في تغافل عن عقاب لا بد أن تتبناه ضمائر الأجيال من خلال حفر مؤسّّس للبناء المتجدد والحياة العادلة. والانسان مسؤول منذ الأزل وله اليد الطولى في قضايا ومجريات الحياة :” إدانة” ص 76 :” هل تعلم أنك خالق القتل والدمار منذ صراع قابيل وهابيل حتى أحدث الاسلحة؟ “.
ولذلك انفتح السارد على قضايا إقليمية وقارية وأخرى عربية، فالإنسان هو الإنسان في كل مكان..
■■ شخصيات المحكيات
في شخصية الجدة التي تقود وتتحكم في مجرى وقائع المحكيات، بتواز مع الراوي، ربطٌ للحاضر بالماضي من أجل استشراف المستقبل من خلال خزانها الحكائي المفعم بالوعظ والتوجيه، لترسيخ المفاهيم التراثية من قصص وأمثال ووو.. وما كان خافيا دور ” الحمار” كقوة فاعلة حاضرة في المحكيات ك ” ناقلة البترول” رمزا للصبر على سوء المعاملة او عنوانا للإنسان الغبي الأبله ” المدغار” الذي اقتحم اسوار كلية العلوم الانسانية ك” حمار طالب” ص 40 يبحث عن إسمه في قائمة الملتحقين الجدد، ويصوغ المعرفة ويقدم الموعظة… ” أستعين بالحيوانات لتعليم البشر” ( لافونتين)، وهو اسلوب الكثير من مؤلفي الاعمال الادبية القديمة.. يقول متوجها بكلامه لحارس الجامعة:” ألا تعلم أني رفيق الجاحظ وتوفيق الحكيم، واني بفضلهما صرت الآن راغبا في تعلم العلوم الإنسانية؟” ص41.فأما ” المدرسة” فقد جعلها السارد قوة مركزية نسجت الكثير من الافعال والاحداث.. ناهيك عن الشخصيات الموزعة على مدار المحكيات من أحياء وامكنة شكلت بؤر تهميش وحرمان أو تعلم وعلم، عبر دوامة زمنية يومية شهرية حلزونية… لكنها قابلة للانفتاح، عبر ما قدمه الكاتب من مقترحات ظاهرة اوضمنية لواقع تسير احداثه وفق حركة طبيعية بعيدة عن السرعة او التشابك.. لكن يلزمنا أحرار ” أين الأحرار؟” ص 25.
لغة المحكيات:
قد يحق لي القول: إن الكاتب تَزَيَّن بأسلوبه الخاص… ولأن المقام قد لا يتسع للتطويل والغوص في لغة المحكيات فساكتفي ببعض الإضاءات المهمة.
بنيت المحكيات بلغة فصيحة ،على لسان كل الشخصيات سردا وحوارا ، يستظل الكاتب بل يصنع لمفرداتها ظلالا وارفة تحدثك عن معرفة كبيرة بأسرار التركيب اللغوي وإدراك مكنونات المفردة وامتداداتها المشتقة المتنوعة المتولدة لفظا :” أنا الحفرة التي تبحث عن حافرها منذ عقود في زمن الحفر… .. احفادي سيسمون أبناءهم بني حفر، وبناتهم حفيرات… حتى يتمتع المواطن بالحفر.. والتحافر…” ص 19 ، و ص 42 ” سن التمجحش” و متولدة معنىً :” اقترب” المدغار”(من أسماء الحمير بالعامية) من المحطة، حيث تجمع طلبة الجامعة…. تبعهم المد – غار” ص 38..إمعانا منه في كشف المعنى بكل صوره والموقف بكل تداعياته للاستئثار بحواس القارئ واسترعاء انتباهه إلى الظاهرة.. وربما كان هذا دافعه إلى استحضار الشواهد الشعرية ، والأمثال العامية و العربية ولو بتغيير يخدم السياق : “تنسى حليمة عادتها القديمة”، ناهيك عن استدعاء اساليب الحجاج بكل مقوماتها..
(غيض من فيض لغوي يستحق غوصا طويلا)…
_وللنبش في المحكيات أسرار أخرى دمنا قارئين