قــــراءة في كتاب “الصحافة والتاريخ” للمؤرخ الطيب بياض

(الحلقة الثالثة : ثـــــقـــافــــة الاحـــــتـــــجـــــــاج)

انطلقت شرارة ما يسمى ب”الربيع العربي” أو “الحراك العربي” من تونس أواخر سنة 2010م عندما أقدم مواطن تونسي يدعى “محمد البوعزيزي” على إحراق نفسه احتجاجا على واقع تجرع فيه مرارة الإقصاء والتهميش ، وسرعان ما انتقلت هذه العاصفة الهوجاء إلى بلدان عربية أخرى ماسة باستقرار عدة أنظمة (ليبيا ، مصر ، اليمن ، سوريا).
وبسرعة البرق التقط الشارع المغربي الإشارة ، وفهم العبارة ، وتجاوب مع هذه الشرارة ؛ حيث نظمت حركة 20 فبراير مظاهرات عديدة حرص فيها المنظمون والمتظاهرون أشد الحرص على عدم اللجوء إلى العنف . وذلكم سلوك يدل حسب الدكتور الطيب بياض على ثقافة ناضجة في الاحتجاج راكمها وتملكها المغاربة عبر تجارب احتجاجية سابقة (مسلحة وسلمية) قبل وخلال وبعد الاستقلال.
فأول احتجاج على الإقصاء والتهميش كان في عهد السلطان مولاي الحسن الأول سنة 1873م ، قاده الدباغون بفاس في انتفاضة عارمة عرفت ب”ثور ة الدباغين” وذلك من أجل إسقاط ضريبة المكس على الجلود التي تم إحداثها من طرف الأمين محمد بن المدني بنيس كإجراء مالي لمواجهة الأزمة المالية . وهي ثورة اعتبرها المرحوم محمد المنوني أول ثورة عمالية بالمغرب ، وعنها قال الناصري : ( لقد ثار الغوغاء وسفلة الأخلاط من الدباغين وتجمهروا وذهبوا لدار الأمين المذكور (بنيس)..وتلاحق اللاحق بالسابق وتسلح القوم واجتمع الغوغاء من كل حدب وصوب ، وصمموا على الهجوم على الدار…ودخل النهاب الدار واستولوا على ما بها من النفائس والذخائر والأموال).
وفي فترة الاستعمار ، وفي إطار مواجهة الاستغلال الاستعماري، اندلعت مجموعة من المظاهرات والاحتجاجات هنا وهناك أطرها وقادها زعماء الحركة الوطنية لعل أبرزها تلك التي تلت “الظهير البربري” الذي أصدرته سلطات الاحتلال الفرنسي يوم 16 ماي 1930م من أجل تفريق المجتمع المغربي عبر فصل الأمازيغ عن العرب وإخضاعهم لمحاكم عرفية وجنائية غير تابعة لسيادة السلطان.
وستثور ثائرة المغاربة كذلك بعد ردود الفعل العنيفة التي جوبهوا بها بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى الإقامة العامة يوم 11 يناير 1944م. حيث نزلت جماهير غفيرة إلى الشوارع في مظاهرات تنديد وتأييد أشهرها مظاهرة 29 يناير 1944 التي تصدت لها قوات الاحتلال بالرصاص مخلفة العديد من الشهداء.
وبعد اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد أوائل دجنبر سنة 1952م اندلعت احتجاجات بالدار البيضاء ردت عليها فرنسا بقمع شديد تجلى في مجزرة كاريان سانطرال مما أثر على سمعتها خاصة وأن هذا القمع تزامن مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وتوالت الاحتجاجات كذلك تباعا بعد نفي محمد الخامس إلى جزيرة كورسيكا ومدغشقر وتنصيب محمد بن عرفة بديلا عنة بتواطؤ مع بعض القواد الكبار. حيث كانت ردود أفعال الحركة الوطنية على أشدها ، ويتجلى ذلك من خلال العمليات الفدائية التي قامت بها الحركة الوطنية ضد رموز الاستعمار وممتلكاتهم مثل محاولة اغتيال محمد بن عرفة ، وتفجير طائرة حربية وحرقها في نواحي مراكش ، إضافة إلى تنظيم مظاهرات شعبية تنادي بإرجاع محمد الخامس إلى عرشه.
وبعد الاستقلال كان طبيعيا أن تشرئب أعناق المغاربة إلى عيش أسعد ، لكن ذلك بقي مجرد أضغاث أحلام بعدما برزت بوادر الاستعداد لاحتجاجات أخرى سنة 1965م ، وهو ما أشار إليه بياض الطيب بقوله : (لكن أفق انتظارهم تكسر على صخرة مجموعة من الاختيارات قادتهم بعد فترة سماح منحوها للحكومات المتعاقبة طيلة عقد من الزمن إلى الخروج يوم 23 مارس 1965 للاحتجاج بالدار البيضاء).
واحتدت الاحتجاجات مرة أخرى بالمدينة نفسها في يونيو 1981م مخلفة قتلى وجرحى اشتهروا لاحقا باسم “شهداء الكوميرا” وذلك بعد إعلان حكومة الراحل المعطي بوعبيد يوم 28 مايو 1981 زيادة في أسعار المواد الأساسية بضغط من المؤسسات المالية الدولية. ولم تكن مراكش ومدن الشمال أيضا في منأى عن ذلك في يناير 1984م .
أما في فاس فسيبقى يوم 14 دجنبر 1990 موشوما في ذاكرة الفاسيين ولن تمحوه السنوات العــجــاف أو الســارة من عقولهم الحافظة سره وظروفه ؛ حيث انطلقت مسيرات احتجاجية من كل حدب وصوب بكل أرجاء المدينة جاهرة بغضب عارم ضدا على غلاء المعيشة وتردي الأوضاع الاجتماعية .
ومهما يكن من اختلاف في قراءة وتأويل هذه الاحتجاجات فإن المؤرخ الطيب بياض يذهب إلى أنها قد تكون قدرا محتوما ما دامت القوى المحركة لها مشبعة بأفكار العنف الثوري الذي كان خيارا لمعسكر دولي بأكمله زمن الحرب الباردة ، ويفسره أيضا بقوة وزخم الحشد الجماهيري الذي كانت هذه القوى قادرة على تعبئته
وللتخفيف من هذا الاحتقان يشير المؤرخ بياض الطيب إلى أن الدولة سلكت عدة خيارات منها : إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ، والسماح للمنفيين بالعودة تحت غطاء “إن الوطن غفور رحيم” ، وتأسيس مجموعة من المؤسسات الحقوقية ، والسعي لجبر الضرر ، وأخيرا الدخول في تجربة التناوب سنة 1998م .
ومن جانب آخر يعود صاحب ” المخزن والضريبة والاستعمار” ليقول بأن الإنهاك الذي تعرضت له القوى المحركة للاحتجاج جعلها تلجأ إلى تأسيس إطارات جمعوية نشيطة أبرزها تنسيقيات مناهضة غلاء الأسعار والتي بلغ عددها حوالي 90 تنسيقية سنة 2007 ؛ وهي تنسيقيات حولت الفعل الاحتجاجي من الساحات العمومية المألوفة (الساحة المقابلة للبرلمان) إلى وقفات احتجاجية في الأحياء الشعبية مؤطرة بلجنة للمتابعة الوطنية تصهر على تفادي وتجاوز المنزلقات التي وقعت الاحتجاجات السابقة بين براثنها. وهذه تراكمات يراها باحثون ومحللون منتجة لأنها جعلت الاحتجاج في الشارع المغربي في مطلع الألفية الثالثة يتحول من عنف قوي إلى سلوك حضاري عبرت عنه حركة 20 فبراير بشعارها الـمـعـروف ” سـلـمـية سـلـمـيـة” والذي كانت – على حد قول د. بياض – ترفعه كلما همت القوات العمومية بالتدخل العنيف لتفريق مظاهراتها.
ألقاكم في حلقة قادمة مع عنوان جديد.
محمد امقران حمداوي

Exit mobile version