مرض الأخبار… إدمان جديد في زمن الفوضى الإعلامية.

بقلم: حسن برني زعيم
في عالم يغلي بالمعلومات المتدفقة بلا توقف، لم يعد الإنسان مجرد متلقٍّ للأخبار، بل أصبح مدمنًا عليها. إشعارات متلاحقة، شريط عاجل، بثّ مباشر، وحسابات إخبارية لا تُحصى على مواقع التواصل… كل ذلك جعل الخبر يتحول من حاجة معرفية طبيعية إلى هوس جماعي، يتغذى على كل ما يُلقى أمامه دون تمييز أو تمحيص، حتى بات الإقلاع عنه أصعب من الإقلاع عن التدخين.
الأخبار… من وسيلة للفهم إلى سوق للمشاعر والانتباه:
لم تعد الأخبار في معظمها تحمل قيمة معرفية أو صلة حقيقية بحياة المتلقي. الحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية تتزاحم مع أخبار الترفيه والفضائح والحوادث المثيرة، حتى ضاعت الحدود بين ما هو ضروري للوعي الجمعي وما هو مجرد ضجيج إعلامي.
في غرف الأخبار، المشهد متشابه في باريس وواشنطن والدار البيضاء: شاشات مضاءة بلا توقف، مؤشرات مشاهدات حمراء متوهجة، وصحافيون يعملون بوتيرة محمومة ليس لإنتاج الحقيقة، بل لإنتاج ما يُنقر بسرعة. السبق يقتل التدقيق، والضغط الإعلاني يدفع نحو الإثارة. لقد تحولت الصحافة إلى مصانع تنتج المادة الخام اسمها “الانتباه البشري”، سلعة تُباع وتُشترى في سوق عالمي بلا ضوابط.
آثار نفسية وثقافية مقلقة:
دراسات واستقصاءات ميدانية تكشف أن ما يقارب 70% من الأخبار التي يستهلكها الإنسان يوميًا لا علاقة لها بحياته المباشرة ولا تقدم له قيمة عملية. النتيجة: إنسان يعيش تحت تأثير “قصف معلوماتي”، متوتر الأعصاب، مستنزف الانتباه، عاجز عن التمييز بين المهم والضجيج، مسلوب القدرة على التفكير النقدي والتحليل العميق.
سياسيًا واجتماعيًا، زاد التلاعب بالوعي الجماهيري عبر الأخبار الموجهة والشائعات المنظمة، لتتحول الجماهير إلى وقود لصراعات وأجندات لا تدرك حقيقتها بالكامل، في عالم تُستبدل فيه المعرفة بالانفعال اللحظي.
الذكاء الاصطناعي… حلّ أم فخّ جديد؟
قد يكون الذكاء الاصطناعي بارقة أمل وسط هذا الطوفان؛ إذ يمنح أدوات لترشيح الأخبار وانتقاء ما يهمّ المستخدم فعلاً، ومقارنة المصادر واكتشاف التضليل. لكن الوجه الآخر للتقنية لا يقل خطورة: خوارزميات تصنع “فقاعات معلوماتية” تحاصر الإنسان داخل رواية واحدة، وتضاعف وهم المعرفة، ليصبح أسيرًا لما تريد له المنصات أن يراه.
إنقاذ الصحافة… وإنقاذ الإنسان:
يرى خبراء الإعلام أن الخروج من هذا المرض الرقمي يتطلب ثورة مزدوجة:
إصلاح الصحافة لتعود مهنة تحقق المعنى لا النقرات، والسبق المبني على الدقة لا الإثارة.
تربية إعلامية تعيد للإنسان قدرته على السؤال: لماذا أقرأ هذا الخبر؟ ما الذي يضيفه لي؟ ومن المستفيد من تفاعلي معه؟
إن لم يحدث ذلك، تحذر دراسات من مستقبل يزداد فيه التلاعب الجماعي بالعقول، حيث تتحول الأخبار إلى “سمّ رقمي بطيء” يفتك بالتفكير النقدي ويقود مجتمعات بأكملها إلى العيش في استنفار دائم، فاقدة البوصلة بين الحقيقة والدعاية، بين ما هو مهم وما هو مجرد ضجيج.
يبقى السؤال: هل سنستفيق يومًا من هذا الإدمان ونستعيد وعينا، أم أننا ماضون نحو مرحلة تتجاوز حدود العقل، حيث تُستبدل الحقيقة بالتهام كل ما يُقدَّم لنا باسم “الخبر”؟