نوسطالجيا: دعوة إلى فقه التاريخ!

بقلم حسن برني زعيم.
التاريخ ليس صندوقا من الحكايات ننتقي منه ما يرضينا ونهمل ما يزعجنا، بل هو كتاب مفتوح، صفحاته أحيانا مشرقة وأحيانا ملطخة، لكنه في كل الأحوال يعكس وجوهنا كما هي، لا كما نحب أن نراها.
في أواخر القرن الثامن الميلادي، مثلا، كان المغرب الأقصى فضاء ممزقا بين القبائل، متعبا من الصراعات، بعيدا عن قبضة العباسيين في المشرق. في ذلك المناخ ظهر رجل واحد، اسمه إدريس بن عبد الله، لا جيش يحميه ولا خزائن يحملها، وإنما نسب علوي جعله يبدو في أعين الناس أقرب إلى قداسة دينية. قبيلة أوربة، التي نزل بها، وكانت قوية بفرسانها وضعيفة بوحدتها، التقطت الفرصة. رأت في الرجل اللاجئ رمزا يوحد صفوفها، فاحتضنته، وبايعته، ثم صنعت معه نواة دولة الأدارسة في المغرب.
لو تأملنا الصورة بسطحية لقلنا: كيف لقبيلة كاملة أن تسلم أمرها لرجل غريب لا يملك من أدوات الحكم سوى اسمه ونسبه؟ لكن فقه التاريخ يعلمنا أن السياسة – أو سياسة الدولة – ليست دائما حسابا باردا للمصالح، بل هي أيضا رهانات على الرمزية والبقاء، ومغامرات بالمعنى الجمعي للأمة. قبيلة أوربة لم تكن غبية ولا ساذجة، بل كانت تبحث عن غطاء يوحدها، فوجدته في رجل قدم من المشرق.
ولكي نفهم الفرق، نتقدم بالزمن إلى قرون لاحقة، حين حلت الأساطيل الأوروبية في شواطئ إفريقيا وآسيا. هناك أيضا كان بعض الوجهاء والأعيان في انتظار “الغريب”، لكن الفارق أن هذا الغريب لم يكن يحمل نسبا مباركا ولا مشروعا يوحد، بل جاء بمدافع وخرائط ودفاتر ضرائب. ومع ذلك، فتحت له الأبواب وسلمت له البلدان كما تسلم مفاتيح البيت لضيف ثقيل، سرعان ما طرد أهل الدار وأقام نفسه سيدا عليهم.
تشابه البيئتين لافت. البيئة الأولى، بيئة أوربة، قدمت زعيما قبليا صادقا في بحثه عن الشرعية، ففتح صدره للاجئ فار من بطش العباسيين، ومن هذا الاحتضان تولدت نواة دولة الأدارسة. أما البيئة الثانية، بيئة المستعمر، فقد أفرزت زعماء طغاة وخونة، ووفرت لهم بيئة موبوءة بالأنانية والذاتية المفرطة، فكانوا نوابا عن الأمة في الغدر، وممثلين لها في الخيانة. هؤلاء لم يفتحوا الباب لميلاد دولة، بل لسقوط السيادة.
الفرق إذن بين بيئة تصنع قادة يغامرون لبناء كيان سياسي مستقل، وبيئة تصنع طغاة يبيعون كل شيء بثمن بخس. وما زالت آثار تلك الخيانة تجري في عروق حاضرنا: حدود مرسومة بالمسطرة الأوروبية، أنظمة مشوهة، شعوب تبحث عن بوصلة.
فقه التاريخ يعلمنا أن استقبال الغريب قد يكون بداية ميلاد أو بداية موت. المعيار ليس في الغريب ذاته، بل في من يحتضنه وفي المشروع الذي يحمله: هل جاء ليشارك في صناعة المجد، أم جاء لينهش الجسد باسم التمدين والحضارة؟
لكن الأخطر من ذلك أن البيئات الخائنة ما زالت تلد أمثالها الخائنين أو الخائفين على مصالحهم وكراسيهم ، وما زالت تفرز “زعماء” يجيدون التوقيع على الصفقات أكثر مما يجيدون الدفاع عن السيادة. لذلك يبدو المستقبل مجهولا ومظلما، كأن التاريخ يعيد دروسه ونحن نصر على أن نبقى تلاميذ أغبياء يكررون الأخطاء. ولعل التاريخ نفسه قد مل من تكرار النصيحة، وأصبح يضحك ساخرا من أمم، وصفت بالعالم الثالث ، في القارات اليابسة والمبللة، تسمع صوته كل يوم، لكنها تصر على أن تمشي مغمضة العينين نحو نفس الحفرة، وانحراف جديد متجدد… ثم تصرخ:
يا للعجب! كيف سقطنا؟!