
بقلم حسن برني زعيم
كرامة الإنسان بين الإغراء القاهر والمال :
حين دخل المال في المعادلة، بدا كأنه مفتاحٌ سحري، يفتح أبواباً لم تكن لتُفتح، لكنه سرعان ما تحوّل إلى سيدٍ قاهر يفرض منطقه على العقول. صار المؤثرون يجنون في دقائق آلاف الدولارات السحرية التي تتحول إلى عملة محلية بلا معاناة ولا طلب أو توقيع ، مقابل محتوى لا يتجاوز خفة الظل أو عرض الجسد أو إثارة العاطفة، بينما الكُتّاب والمفكرون الذين يغوصون في أعماق الوعي لا يحصدون إلا فتاتاً مما قد يشبه تلك القيمة.
لكن القضية أبعد من أرقام وأجور؛ إننا أمام تحويل الأذواق إلى سلع، والوعي إلى مسرح ” للغفلة.” فالمال، حين يسيب، يزرع في النفوس بذور الكسل، ويُسقي تربة الجهل ويخصب عناصر التفاهة ، ويجعل من العقل مرعى للفراغ. وما أخطر أن يتعود الإنسان على اللهو بدلاً من أن يفكر، أن يستهلك عوض أن يبدع، أن ينسى قضية الحرية والكرامة في سبيل لحظةٍ عابرة من الترفيه تجني “لايكات” و”قلوبا” ملونة تتحول إلى “أرزاق” و “بركات”في جيوب الخاملين من نوع آخر.
هكذا يُراد للأجيال أن تُساق إلى الملهاة العظمى: أن يضحك الناس و” ليسترزق” آخرون أو يأخذون طريقهم بالصدفة إلى الثروة الهائلة بينما تُرسم خرائط العالم في غيابهم …..!
إن حكام خرائط العالم لا يحتاجون اليوم إلى سوطٍ ولا إلى سجون، ولا إلى مدافع وطائرات نفاثة ،وإنما يكفيهم أن يغمروا الناس بفيضٍ من متعٍ سريعة، تجعلهم يصفقون للفراغ كأنه إنجاز، وينامون على أوهامٍ كأنها أحلام . والغريب العجيب أن كل هذا يجري في الفضاء والافتراض وعبر القارات إلى أن تسري ” بركاته” على الأرض.
فين أن كرة القدم مثلا تجري على الأرض وفي الفضاء وعبر القارات أيضا ، وبذلك تكون المثال الأوضح على هذه المعضلة: مليارات تُنفق على ملاعب شاهقة وعقود فلكية للاعبين يُباعون ويُشترون كما لو كانوا سلعة في سوق، فيما الجماهير تملأ المدرجات، تذرف دموعها على فوز أو خسارة، وتنسى أن وراء الجدار قرارات تُصنع، وأن فوق الرؤوس المتمايلة سماءً مثقلة بالظلم واللامبالاة. كرة تتدحرج على العشب، فتتدحرج معها القلوب والعقول، وتذوب القضايا الكبرى في صخب الهتاف.
إنها لعبة قديمة، لعبة الإلهاء؛ السطح يبتلع العمق، واللحظة تمحو الأبد، والمال يكتب المعنى بدل أن يكتبه العقل.
ماذا بعد ؟
“هل يمكن للربح اللحظي أن يقضي على الثقافة والفكر، ويحول الجيل القادم إلى مجرد أدوات استهلاك وترفيه؟ أم أن ثمة من سيجرؤ على السباحة عكس التيار، ليعيد للإنسان ذاكرته، وذوقه، وكرامته الضائعة؟”