رياضة

كرة القدم.. كيف تنقلب الرياضة إلى عقيدة..؟

بقلم حسن برني زعيم

منذ أن وجدت الرياضة في حياة البشر، ارتبطت بالمتعة والتسلية، وبقيم الأخلاق والانضباط واحترام الخصم. كانت فضاء رحبا للتربية على الانفتاح والتعايش، ومدرسة لصقل الذوق الجميل، ترفع الجسد والروح معاً. لكن كرة القدم، وهي الرياضة الأكثر انتشاراً، انزلقت شيئاً فشيئاً من هذه الأهداف النبيلة إلى عالم المال والإعلانات والسياسة. لم تعد مجرد لعبة تزرع الفرح في القلوب، بل تحولت إلى ما يشبه العقيدة الجديدة، وإلى صناعة ضخمة تدار بمنطق الأسواق لا بمنطق القيم. ومن هنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن أن تنقلب الرياضة من مدرسة للأخلاق إلى صنم حديث يعبد في الملاعب؟
في زمن كانت فيه الشعوب تلتجئ إلى المعابد طلبا للخلاص، صار الملعب هو المعبد الجديد، والكرة الجلدية هي الصنم الذي تعلق عليه الآمال. جماهير غفيرة تهتف وكأنها جوقة أسطورية تبحث عن الخلاص، لا في العدالة ولا في الحرية، بل في قدم تركل كرة. إنها لحظة جماعية من الانخطاف، تختلط فيها دموع الفرح بدموع القهر، ويصبح الفوز بديلاً عن العدالة، والبطولة غطاء على الهزيمة اليومية في تفاصيل العيش.

اللاعب اليوم نصف إله ونصف إعلان. لم يعد إنساناً عادياً، بل تمثالاً متحركاً من اللحم والدم، يساوي ثمنه ميزانية مدينة صغيرة. يباع ويشترى كما تباع الأبقار في الأسواق، لكن بفرق واحد: البقرة على الأقل تطعم الجياع بلحومهاوشحومها ولبنها، بينما اللاعب يطعم وهم الانتصار. لم يعد اللاعب يلعب فقط، بل يبيع ابتسامته لشركات المياه الغازية، ويعرض جسده على لوحات الإعلانات، ويتحول من رياضي إلى سلعة عابرة للقارات.

وأما في الدول المتخلفة التي جمهورها أنشط من غيره فإن المستشفى، قد صار مقبرة مؤجلة. وبينما تدفع الملايير لنقل لاعب من نادٍ إلى آخر، يظل المستشفى الحكومي مكانا يذهب إليه الناس بحثا عن الشفاء فيجدون الموت في الانتظار والألم والأنين في الجنبات. غرفه بلا أدوية، وأَسرته بلا غطاء، وأطباؤه يشتكون أكثر مما يعالجون. المفارقة أن المريض الذي ينتظر جرعة دواء يتابع بدوره المباراة على شاشة صغيرة، يصفق للهدف كأنه حقنه بالأمل، بينما الحقنة الحقيقية مفقودة.

والمدرسة في هذه الدول ليست سوى قاعة انتظار كبرى. هناك حيث يجلس التلميذ على كرسي متهالك، يحفظ معادلات لا يفهمها، وينتظر معلما قد لا يأتي، ويكبر ليكتشف أن العالم يحتاج إلى مشجع أكثر مما يحتاج إلى مفكر. المدرسة هناك تحول الطفل إلى ورقة بيضاء، ثم يأتي الإعلام ليخط عليها أسماء الفرق الكبرى. وهكذا، يصنع المشجع منذ الصغر: عقل لا يسأل، قلب يصرخ، ويد تصفق.

أما الحزب السياسي في هذه البلدان، فلا يختلف كثيراً، فهو مدرج بلا مباراة. مدرج مليء بالهتافات والشعارات، لكنه بلا أهداف. هناك أيضاً جماهير تصفق، لكنها جماهير مأجورة، ترفع الأعلام وتنتشي بالوعود، قبل أن تعود إلى بيوتها خالية الوفاض. السياسة عندهم تشبه مباراة سيئة: فريقان يتناوبان على نفس الكرسي، والنتيجة دائماً “خسارة الشعب”.

ومع ذلك، ينبغي ألا نقع في التعميم السهل. ففي الدول الديمقراطية المتقدمة، مثل معظم بلدان أوروبا، مدارسها ومستشفياتها وقضاؤها وشرطتها وفلاحتها تعمل في أحسن حال. وحتى في دول أخرى مثل الصين واليابان وكوريا، حيث كرة القدم موجودة كمعابد حديثة، إلا أن تأثيرها كأفيون أقل قسوة لأنها لا تستعمل لإخفاء الجوع والمرض، بل تمارس داخل منظومات تحترم كرامة المواطن وحقوقه. أما الدول الغارقة في التخلف، فإنها تصرف الجماهير إلى الملاعب بينما تتركهم يتخبطون في الجهل والفقر والعلل، لتنافس جماهيرها جماهير الدول المتقدمة في الحماس، دون أن تنافسها في العدالة أو التنمية.

ولا ننسى دور الإعلام الذي يحول الملعب إلى مسرح أسطوري. فهو الذي يضخم، ويعيد صياغة الأحداث وكأنها معركة مصيرية. الميكروفونات ترفع الصوت إلى أقصى حد، والعدسات تكبر الصورة، حتى يبدو الهدف أهم من إصلاح دستور أو مناقشة ميزانية. الإعلام يصنع “الأسطورة الكروية”، ثم يبيعها للجمهور كوجبة يومية.

والمؤثرون على المنصات الرقمية يضيفون طبقة جديدة من التهييج. مشجعون يتحولون إلى محللين، يبكون أمام الكاميرا بعد هزيمة فريق، ويحصدون آلاف الإعجابات أكثر مما يحصده باحث نشر دراسة علمية أو معلم شرح درسا مجانيا. هكذا يعطى الانفعال قيمة تفوق قيمة المعرفة، ويصبح صانع المحتوى الرياضي أقرب إلى “قائد روحي” للجماهير.

ويبقى القطيع الأسطوري هو الجماهير نفسها، البطل الحقيقي لهذه المسرحية. قطيع لا يعرف من الحياة إلا فرحة مؤقتة في الدقيقة 90، بينما حياته اليومية سلسلة هزائم: راتب يتبخر، مستشفى لا يداوي، مدرسة لا تعلم، وحزب لا يمثل. ولعل الأخطر أن هذا القطيع يدافع عن سجانه: يهاجم من ينتقد اللعبة، ويتهمه بأنه “عدو الفرح”، وكأن الفرح لا يصنع إلا على حساب الغفلة.

هكذا لم تعد كرة القدم مجرد لعبة، بل صارت دينا بلا إله، وسوقا بلا عدالة، وأفيونا يسري في العروق بلا إبرة. إنها ليست مجرد 90 دقيقة من اللعب، بل مشروع عالمي لإعادة تشكيل العقول. الجماهير تهتف: “غووول”، بينما التاريخ يكتب: “…غفلة…”

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى