تكنولوجيا

رحلة عبر العالم وثقافته الحلقة الثانية

بقلم حسن برني زعيم

الشاشات والفيضان الرقمي…إلى أين؟

الفيضان الرقمي اليوم يكتسح كل شيء: شلال متدفق من الفيديوهات القصيرة، الصور اللامعة، والمحتوى السريع الذي يُستهلك بلمح البصر. إعلانات مدروسة بعناية لا تمنحك فرصة تفكير، بل تخطفك فوراً إلى دائرة التلقي اللحظي. وتشير بعض الدراسات إلى أن أكثر من 60% من المستخدمين يقضون نصف يومهم تقريباً على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما لا تتجاوز ساعات القراءة اليومية في المتوسط نصف ساعة فقط. هكذا تتسع الهوة بين عمق الفكر وسطحيته، وبين التأمل الهادئ والإشباع اللحظي.

الفيديوهات القصيرة على TikTok وInstagram وYouTube Shorts لم تغيّر فقط شكل الترفيه، بل أعادت صياغة طريقة التفكير ذاتها: لم يعد العقل يحلل أو يناقش، بل يبتلع المعلومة كما تُبتلع لقمة سريعة بلا طعم باقٍ. إننا نعيش لحظة “الإشباع الفوري” التي لا تمنح مساحة للوعي أو النقد. والنتيجة واضحة: تراجع القدرة على التركيز، ضعف في الذاكرة، وانحسار في مساحات الإبداع. الشاشات لم تسرق منا وقت القراءة فحسب، بل حوّلت التفكير العميق إلى رفاهية نادرة، وكأنه ترفٌ لا يتسع له زمن السرعة.

الأدهى أن هذا النمط الجديد لا يقتصر على ملء ساعات الفراغ، بل يعيد تشكيل الدماغ نفسه. علماء الأعصاب يرون أن التعرّض المستمر للمحتوى المقتضب يقلل من قدرة الدماغ على استيعاب النصوص الطويلة أو الأفكار المركبة. وفي دراسة لجامعة كاليفورنيا، تبيّن أن متوسط مدة التركيز لدى المستخدم الحديث انخفض إلى ثماني ثوانٍ فقط، أي أقل من تركيز سمكة ذهبية في حوض زجاجي!

ولعل المفارقة جلية: جيل التسعينيات كان يلتهم الصحف والكتب لساعتين يومياً في المتوسط، أما جيل اليوم فيكتفي بربع ساعة من القراءة المبعثرة، مقابل ساعات طويلة من تصفّح بلا هضم. لذلك انتشرت صيحات “المحتوى في دقيقة” و”الملخصات السريعة”، حيث لا يُطلب الفهم بقدر ما يُطلب المرور السطحي على أكبر قدر من المعلومات. حتى في الجامعات، يشكو الأساتذة أن الطلبة أصبحوا يلهثون وراء إجابات جاهزة عبر الذكاء الاصطناعي أو مقاطع قصيرة، بدل الغوص في المراجع.

لقد غدت ثقافتنا المعرفية أشبه بمكتبة هائلة بلا فهرس: رفوف ممتلئة بالمعلومات، لكن بلا روابط تُنظمها أو عقل يجمع خيوطها. وتعمل خوارزميات المنصات على تضييق الأفق أكثر، إذ لا تقدّم للمستخدم سوى ما يحب ويشتهي، محاصِرة وعيه داخل فقاعة صغيرة من التكرار والتماثل. وهكذا يتسع خطر السطحية ليصل إلى جوهر التفكير نفسه.

إننا أمام مجتمع يعيش على تدفق لا ينتهي من المعلومات، لكنه يفتقر إلى البوصلة النقدية التي تمنح هذه المعلومات معناها.

فهل بوسعنا أن نمدّ جسراً بين سرعة العصر وضجيجه، وبين بطء القراءة وعمقها، أم أن زمن السرعة سيبتلع في جوفه كل فسحة للتأمل، فلا يبقى للعقل سوى شظايا عابرة تتبدد مع أول إشارة تنبيه؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى