معلم جيل ما بعد الاستقلال بجماعة افريطيسة : الشارْفي أحمد الحبيب بن الهادي
جماعة افريطيسة: محـمد أمـقـران حمداوي
أكتب اليوم عن علم فـذ وعن نجم من النجوم التي أنارت عقول جيل ما بعد الاستقلال بجماعة افريطيسة (تانديت)التابعة حاليا لإقليم بولمان. عَـلَـمٌ تخرجت على يديه العديد من الأطر التي شغلت مناصب هامة في دواليب الإدارة المغربية. عَـلَم كان ولا يزال ذكره يتردد في جميع المجالس والمحافل عند ساكنة جماعة افريطيسة وأوطاط الحاج وكرسيف إلى يومنا هذا. ومن كثرة ما حُكِي لي عنه كنت أرغب في مقابلتة رغبة الخبَّاز في مقابلة الإمام أبي حنيفة. وشاءت الأقدار الإلهية أن ألتقي به مباشرة يوم 13 يوليوز 2022م في مأدبة عشاء بمناسبة عيد الأضحى في مجلس من مجالس أحد أفراد العائلة. إنه الأستاذ الشارْفي أحمد الحبيب بن الهادي الذي اندهشت للغاية في مجلسه إلى درجة أنني أحسست أن الرحمة تغشى كل المدعوين. إنه أستاذ، بل معلم محترم بسيط، حامل لكتاب الله تعالى، زاهد في الحياة، يتواضع تواضع العلماء، لا تُبهره الشهرة ولا يستهويه المال. نَـذَرَ حياته للتعليم والتوجيه والنصح والإصلاح بين الناس حيثما اشتغل وارتحل، الشيء الذي جعل اسمه متداولا بين الصغير والكبير في وِدْيان وهضاب وجبال ووِهاد إقليم بولمان وإقليم تازة. التحق بسلك التعليم سنة 1961م. واشتغل في البداية في “افريطيسة” لمدة ثلاث سنوات نال خلالها احترام الجميع بفضل ما عُــرِف به من إخلاص وتضحية ونكران ذات في سبيل أداء الواجب الوطني، ثم شد الرحال ثانيا إلى أوطاط الحاج التي قضى بها خمس سنوات كلها جد واجتهاد وحب متبادل بينه وبين السكان. ومنها إلى رباط الخير (هَـرْمَمُّو) التي قضى بها أيضا خمس سنوات كمكلف بالإدارة التربوية. دارت الأيام دورتها وجرفه تيار الترقية والجزاء بدون سابق إشعار إلى مدينة تازة ليتولى هناك أولا تدريس مادة اللغة العربية بثانوية علي بن بري لمدة ثلاث سنوات، وليعمل ثانيا في النيابة الإقليمية لتازة لمدة خمس سنوات نسج خلالها علاقات طيبة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء. وعندما تم تدشين عمالة إقليم بولمان في ميسور سنة 1979م عاد من جديد إلى ميسور ليشتغل بالنيابة الإقليمية كمرشد إقليمي في التغذية المدرسية والمطاعم المدرسية والتربية الغذائية. وهي المهمة التي أداها بأمانة وصدق الأنبياء، ما جعل فضله على التلاميذ المستفيدين من الوجبات الغذائية في الداخليات والمطاعم المدرسية كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وبفضل ما أبان عنه من جد وإتقان وتفانٍ في أداء الواجب تقلد الأستاذ أحمد الحبيب منصب الكاتب الإقليمي لنيابة إقليم بولمان ثم منصب الكاتب الخاص للنائب الإقليمي. وهناك خبر الإدارة ودروبها ومنعطفاتها.
ونظرا لما اتصف به ابن منطقة “ارْشيدة” ( منطقة على بعد 20 كلم من جرسيف) من فضائل المحاجَّة والحوار والصدق والإخلاص كان السادة النواب الإقليميون الذين تعاقبوا على تسيير النيابة الإقليمية بميسور يكلفونه بمهام تسير النيابة الإقليمية أثناء إجازاتهم كما كانت تقضي القوانين آنذاك، كما كانوا يكلفونه بتمثيلهم في عدة مناسبات وطنية ودينية.
ولظروف خاصة لا يتسع المجال لذكرها غادر حفيد الولي الصالح “سيدي يعكـوب” دفين منطقة “ارْشيدة” النيابة الإقليمية بميسور في اتجاه جرسيف ليتولى منصب مدير مجموعة مدارس الصَّبَّاب لمدة خمس سنوات، انتقل بعدها إلى تاوريرت ليشغل أيضا منصب مدير مدرسة التقدم الابتدائية التي تم افتتاحها لأول مرة، وذلك لمدة ثلاث سنوات. ومِـمَّا يُحْتسَب في ميزان حسنات معلم جيل ما بعد الاستقلال الشارْفي أحمد بن الهادي هو أنه هو من كانت له اليد الطولى بعد الله تعالى في افتتاح إعدادية ملوية بجماعة افريطيسة. حيث – بناء على إحصائيات خاصة بالتلاميذ الناجحين في الشهادة الابتدائية والذين لم تسعفهم الظروف المادية لمتابعة الدراسة في السلك الإعدادي – قدم طلبا إلى الوزارة لبناء مؤسسة إعدادية بالجماعة. وبقدرة قادر في رمشة عين وانتباهتها حلت لجنة وزارية بجماعة افريطيسة (تانديت) لاقتناء مساحة لبناء المؤسسة. وقد تم الحصول على البقعة الأرضية بدون مقابل بتسهيلات مرنة من السلطات المحلية ورئيس الجماعة القروية آنذاك الطيب اخْـريميش الذي قال للجنة الوزارية بالعبارة والحرف الواحد: ( مساحة المؤسسة رهن إشارتكم من 18 إلى واد عمَّار). بعد سنوات من العطاء المتواصل أحيل الأستاذ المبجل على التقاعد مكللا بوسام ملكي من الدرجة الممتازة وحاملا لشواهد تشجيع وتنويه متعددة. وبفضله تخرجت من المنطقة أطر عديدة شغلت مناصب حساسة في هرم الإدارة المغربية، المدنية والعسكرية، وعلى رأسهم: قدور حمداوي المدير الجهوي لاتصالات المغرب سابقا، والمرحوم الجنرال قسو حمداوي، والمرحوم الجنرال خلفاوي وغيرهم كثير.
هذا قليل من كثير، وغيض من فيض عن معلم تواترت عن جده وإخلاصه وقربه من الله تعالى روايات كثيرة على لسان من عايشوه وعاصروه وتعاملوا معه وعرفوه عن قرب وعن بعد. لقد أعطى وأبدع، وعَـلَّم ونفع، وأصلح بين الناس ورفع. فجزاه الله خيرا وإحسانا على صنيعه. لم يُــوَرِّثْ درهما ولا دينارا، وإنما وَرّث العلم ونشر المعرفة في وقت كانت فيه بلادنا تَـرْسُـفُ تحت ظلمات الأمية وتُـضَـمِّـد جراحات مخلفات الاستعمار.