الصحافة والإعلام: من الكتابي البليغ إلى الشفهي الوضيع

بقلم: عبد الحكيم البقريني
الصحافة مرآة الشعوب وتعبير عن الوعي السائد داخل وسط معين، لذلك من الواجب ان تكون الوجه المشرق للبلد، وأن تعمل على الرفع من الذوق الفني للمواطن، وأن تسعى لبناء الإنسان إلى جانب المؤسسات الأخرى البانية لفكر الأفراد والجماعات.
لقد كانت الصحافة إلى عهد قريب في أرج وأوج وسمو من خلال المعطيات التي كانت تقدمها، أو المواضيع التي كانت تناقشها، أو من خلال المستوى اللغوي الراقي الذي يمتلكه الصحفي، الذي كان يعد مدرسة للقراء، ومرجعا للمقررات الدراسية.
لقد كانت الصحافة مدرسة لغوية بالنظر للعديد من المبدعين والكتاب الذين التزموا بالكتابة عبر صفحات الجرائد، وملاحقها الثقافية وغيرها من الصفحات المختصة. تلك الصفحات التي كان يتمكّن من ولوجها إلا من يمتلك ناصيه اللغة والأدب، ولعل الأسماء التي كانت تؤثث صفحات الجرائد الوطنية والعالمية خير مثال، إذ كانت هذه الأقلام تكتب بأدبية ورقي واضحين، وكانت بذلك تعتبر الصحافة سلطة رابعة، أو صاحبة الجلالة.
كان الصحفي رجلا مبدإ، مناضلا، ملتزما بقضايا الشعب، ومعبّرا عن همومه وتطلعاته، ناطقا باسمه، ومدافعا عن حقوقه. فنراه مجاهدا بقلمه، منافحا عن أحلام الطبقة الشعبية الهشة. وكل صحفي أو صحِيفة خرجت على هذا الصنف او المبدإ، فهو قلم مأجور أو وصولي، وهي صحافة صفراء.
خلال العشرية الأخيرة ظهرت صحافة من نوع آخر، وإن كنا نتحفّظ على هذا الاطلاق، باعتبارها بعيدة كل البعد عن الحس الصحفي المتعارف عليه، فهي بدون لون ولا طعم، كما أنها بعيدة كل البعد عن المبادئ التي انيطت بالصحافة، فلا هي مهتمة بقضايا الشعب ولا هي تمتلك أدبية أو يمتلك صاحبها ناصية اللغة أو أبجديات التواصل الفعال، والتعبير اللغوي السليم والسلس. إنها صحافة سطحية، لا نبل تحمله، ولا قيم ومثل ترتكز عليها. لا حاجة لها في بناء الإنسان وإعلاء حسه النقدي، والرقي بذوقه الفني. هي تسعى في مجملها لنشر التفاهة والاسفاف، والزج بالمتلقي في بوثقة الفضائح والعورات، وهي التي وجدت ضالتها في المستنقع الآسن للعالم الافتراضي.
لقد انتقلت الصحافة من المكتوب البليغ إلى الشفهي الوضيع، فإذا كان أصحاب النوع الأول قد تمكّنوا من كتابة ومراكمة العديد من المقالات، والمجموعات القصصية، فضلا عن العديد من المقالات الفكرية التي وضعت حلولا للمشاكل الكبرى، فإن الصنف الثاني رأسمالهم كلام خال من كل فائدة أو حمولة فكرية، مستوى لغوي منحط، وضعف تركيب، إذ معظمهم لا يستطيع تحرير موضوع متماسك، أو مقاربة ظاهرة، فلا القلم سلاحهم، وإنما الجلبة والضجيج والسعي وراء الفضائح التي يتم افتعالها أحيانا تحقيقا للبوز بلغة التواصل الاجتماعي. هذا النمط من الإعلام إن صحت التسمية لا يعبر عن طموحات وأحلام الشعب وقضاياه الكبرى، بقدر ما يلهث وراء سفاسف الأمور. وهنا يصبح السؤال مشروعا؛ ما الغاية وما رسائل هذا النمط الفضائحي؟ وما الجهات الداعمة له؟ وإلى متى ستظل الحكومات صائمة عن التصدي له؟ أسئلة وأخرى تبقى معلقة، ويبقى الواقع المر للإعلام هو الانتقال من المكتوب البليغ إلى الشفهي الوضيع.

Exit mobile version