هروب جماعي من القسم: هل تحوّلت المدرسة المغربية إلى مسرح للعبث؟

بقلم: عبد الحكيم البقريني
في الوقت الذي ترفع فيه الدولة شعارات إصلاح التعليم، وتبشّر بمشاريع تربوية كبرى، يطلّ علينا واقع المدرسة المغربية بمشهد يُثير القلق والدهشة. مباراة ولوج مركز التوجيه والتخطيط التربوي، التي استقطبت أكثر من 13 ألف مترشح ومترشحة للتنافس على 60 منصباً فقط، كشفت عن أزمة أعمق مما نتصور. فالإقبال المهول على هذا السلك لا يُفسَّر فقط بجاذبية المهنة، بل يعكس – في جوهره – رغبة جماعية في الفرار من القسم، من واقع تعليمي يزداد اختناقاً وانهياراً.
لقد تحوّل القسم الدراسي إلى بيئة طاردة للأستاذ، حيث يعاني من غياب التحفيز، وتراجع دور المؤسسة التربوية، وتفشي مظاهر الإهمال والسلوكيات المنحرفة داخل الفصول. جيل اليوم، المتشبع بمحتوى منصات التواصل الاجتماعي، يأتي إلى المدرسة متعباً، فاقداً للرغبة، غارقاً في ثقافة الترفيه والسطحية. أمام هذا المشهد، يصبح دور الأستاذ شبه مستحيل: كيف يُدرّس ويُقوّم ويُربي في ظل هذا الانهيار القيمي والمعرفي؟
ليست مسؤولية الانهيار التربوي محصورة في التلميذ أو الأستاذ فقط، فالإدارة التربوية تلعب دوراً كبيراً في تعميق الأزمة من خلال تمرير “الخريطة المدرسية” دون اعتبار للمستوى الفعلي للتلميذ. يتم الانتقال من مستوى لآخر بشكل آلي، حتى وإن كان التلميذ عاجزاً عن كتابة جملة سليمة. هكذا نجد أنفسنا أمام جيل من “الأميين المقنعين”، يحملون شواهد لا تعكس حقيقة مكتسباتهم.
أمام تفاقم الانفلات داخل المؤسسات، رفعت الوزارة شعار “العقوبات البديلة”، لتستبدل الطرد والتوقيف بأنشطة كالرسم والبستنة. سياسة ناعمة قد تبدو حضارية، لكنها فشلت في ردع المتطاولين على المدرسة وأطرها. ويأتي مشروع “إعداديات الريادة” ليضيف مزيداً من الزيف إلى المشهد، إذ يُجمّل الواقع إعلامياً، في حين أن التلاميذ يجهلون أساسيات اللغة، ويحصلون على نقط لا تعكس مستواهم الحقيقي.
لقد أصبح تزييف النتائج قاعدةً لا استثناء. تُمنح نقط عالية في بعض المواد لتغطية الفشل في مواد أخرى، وتُبنى نسب النجاح على مؤشرات وهمية. الامتحانات والفروض لم تعد تقيس الكفاءة، بل أضحت تمارين شكلية تُوزّع فيها النقط بشكل عبثي، ما يُسهم في تمييع العملية التعليمية.
إلى جانب المدرسة، تخلّت الأسرة عن دورها الرقابي والتربوي، لتترك أبناءها عرضة للمؤثرين واليوتيوبرز، دون متابعة دراسية أو سلوكية. في المقابل، غاب التأطير الحقيقي للأساتذة، وتراجع دور المفتشين في التكوين والمواكبة، مما خلق فراغاً مهولاً على مستوى المراقبة البيداغوجية والمهنية.
ما نعيشه اليوم هو نتيجة سياسة “دعهم يمرون”، حيث النجاح مضمون، والفروض منفوخة، والإحصائيات مزورة، في غياب تام للمحاسبة والصرامة. كيف ننتج نخبة حقيقية، إذا كانت أقسام الثالثة إعدادي تضم تلاميذ لا يجيدون القراءة والكتابة؟
أمام هذا الوضع لا يسعنا إلا أن نوجه رسائل أخيرة… وندق جرس إنذار.
إلى الآباء: راقبوا أبناءكم، وخاصة استعمالهم للهواتف، فهي تفتك بعقولهم في صمت.
إلى المديرين: كفى تزويراً للإحصائيات، فأنتم تلعبون بالنار.
إلى الأساتذة: لا تكونوا جزءاً من المهزلة، واصمدوا أمام تيار الانحدار.
إلى الوزارة: إن أردتم إصلاح التعليم، فابدؤوا أولاً من الاعتراف بالحقيقة.
إن التعليم المغربي على مفترق طرق، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن القسم سيصبح مقبرة للطاقات، والمدرسة ستتحول إلى ذكرى من الماضي. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الشجاعة في مواجهة الواقع، لا من تلميع الشعارات.