قراءة الأستاذ عبد الرحيم التدلاوي لديوان الشاعر محمد اسباعي.

ديوان “عاشق لبيرتا”: سيمفونية التمرد والحرية في مواجهة ظلام الاستبداد. ** عندما تلامس نصوص ديوان “عاشق لبيرتا” للشاعر محمد أسباعي، تتنفس روحًا ثائرة ترفض أن تُسجن تحت سقف الواقع المظلم، فكل قصيدة تحمل في ثناياها شرارة التمرد التي تُضيء دروب الحرية. تبدأ الرحلة من العنوان الرئيسي “الخيمة”، الذي لا يكتفي بكونه غلافًا للنصوص، بل يصير فضاءً رمزيًا يحتضن أحلام الشاعر وألمه، كأنه يحوّل القصائد إلى مأوى للثائرين الباحثين عن نورٍ يطرد ظلام القيود. تتداخل الثنائيات هنا كخيوط نسيجٍ متماسك، فالحب والحرية يتشابكان في عباراتٍ عاطفية عميقة، حيث تتحول “لبيرتا” إلى رمزٍ للتحرر الذي لا ينفصل عن العشق، فالشاعر لا يطلب منها سوى أن “تسفري” وتنفض غبار الضباب عن وجه الحقيقة، وكأن الحرية هنا ليست مجرد فكرة مجردة، بل هي حالة وجودية تنبض بالحياة، وتُقاس بمرارة الألم وحلاوة الأمل.

لا يكتفي الشاعر برسم حدود الثنائيات، بل يحفر في أعماقها ليكشف عن تناقضات الوجود الإنساني، فالألم الذي يظهر في “جراحها” و”أوجاعها” لا ينفصل عن بصيص الأمل الذي يتجلى في “حمامنا الزاجل” و”مواسم الأعراس”. هذه الثنائيات ليست مجرد تقابلات لفظية، بل هي مرايا تعكس صراعًا داخليًا وخارجيًا، حيث الظلام الذي يلف المدينة بـ”قمرها الأسود” و”ليلها المثخن” يواجهه الشاعر بنداءات متكررة تطلب فتح الأبواب ونثر الضوء، وكأن النور هنا فعلٌ يوميٌ يُخلق من رحم المعاناة. وفي هذا الصراع بين الواقع المرير والحلم المُتخيل، تتحول الأحلام إلى جسرٍ يربط بين عالمين، فالشاعر يعيش تحت وطأة “دروب المتاهة” التي تضيق به، لكنه يصوغ من أحلامه عالماً موازياً تُولد فيه السلام وتزهو فيه مواسم الأعراس، وكأنه يؤمن بأن الخيال ليس هروبًا، بل هو سلاحٌ لمواجهة القبح.

لا تنفصل هذه الثنائيات عن الأدوات البلاغية التي تحوّل النصوص إلى لوحاتٍ شعرية نابضة، فالشاعر يستخدم الاستعارة ببراعة ليُجسّد المدينة ككائن حي “شامخ” ينزف جراحًا، ويُحوّل “القمر الأسود” إلى رمزٍ للظلم الذي يلفّ الأفق. التكرار هنا ليس زخرفةً لفظية، بل هو إيقاعٌ ثائر يُعيد ترسيخ النداء في الوجدان، فـ”يا لبيرتا” تصبح هتافًا جماعيًا يتردد صداه كموجةٍ لا تهدأ. أما التضاد بين “الليل المثخن” و”صبح الأعراس”، فيكشف عن فلسفة الشاعر التي ترى في التناقضات جوهر الحياة، حيث لا قيمة للنور دون عتمة، ولا معنى للأمل دون ألم.

في قصائد مثل “أيها الحاكي”، يتحول النص إلى محاكمةٍ لسلطة السرد المزيف، حيث يصير “الحاكي” دميةً تتحرك بخيوط الأكاذيب، في مشهدٍ يسخر من مسرحيات السلطة التي تُزيّف الواقع. بينما تنفتح “أحلامي لك الندى” على هشاشة الأمل، حيث الفراشات المُحلقة والندى الذي يتبخر تحت شمس الواقع، لكنها ترفض الاستسلام، مؤكدةً أن الحلم “وقود الحياة”. أما “هروب” فيكشف عن الهروب إلى الخمرة كملاذٍ مؤقت من عواصف الواقع، لكنه هروبٌ لا ينفي الرغبة في العودة إلى ساحة المواجهة، بل هو استراحة محاربٍ يلتقط أنفاسه.

لا ينسى الشاعر أن يستدعي رموزًا تراثيةً وأسطوريةً لتعميق رسالته، فـ”سيزيف” يتحول في “ندوب أفريكا” إلى رمزٍ لمعاناة الشعوب تحت نير الاستعمار، لكن دحرجة الصخرة هنا تصير فعل مقاومةٍ يومي، وليست مجرد عقابٍ عبثي. وفي “عودة دراكولا”، تتحول الأسطورة إلى مرآةٍ تعكس وحشية الاحتلال، حيث يصير مصّاص الدماء وجهاً آخر للقمع الذي يسرق الطفولة تحت جنح الظلام. حتى الشخصيات التراثية مثل “شهرزاد” و”دون كيشوت” تُستدعى لترسم ثنائية الحكمة والمثالية في رحلة التحرر، وكأن الشاعر يربط بين حكمة الماضي وجنون الحاضر ليبني جسرًا نحو المستقبل.

بهذا التركيب المتداخل للثنائيات والرموز والأساليب البلاغية، يصير الديوان سيمفونيةً شعرية تعزف على أوتار الرفض والأمل، حيث تتحول الكلمات إلى حرابٍ تواجه الظلم، وإلى أجنحةٍ تحمل أحلام المقهورين نحو فجرٍ يُبشر بغدٍ مختلف. الشاعر لا يكتب بالحبر، بل بدم القلب النابض، ليُذكرنا أن الشعر قد يظل أقوى سلاحٍ ضد قبح العالم، وأجمل ترنيمةٍ تُعيد للإنسان إيمانه بجمال الحياة رغم كلّ شيء.

Exit mobile version