أخبار عامة

نحن …والتاريخ… والمزبلة 1/3

لنتساءل : كيف ستكون أحوال المجتمع لو توقف الناس عن التخلص من النفايات ؟ دعونا نتصور حالة البيوت والشوارع والمؤسسات والطرقات والمدارس والمطارات والمستشفيات لو تركنا النفايات حيث وجدت لمدة يوم أو يومين…لا شك أن الحركة ستشل في كل مكان وناحية…وتتضاعف الأمراض والأخطار.

لهذا وجب علينا جميعا الوقوف احتراما وإجلالا لأول من فكر في وضع سبل النجاح في تجميع النفايات في المزبلة لبحث وسائل التخلص منها بعيدا عن البيوت والمؤسسات والأماكن الحيوية …

لكن ، هل تساءلنا، لحظة ، عن وجود نفايات أخرى لا زراعية ولا صناعية ولا كيماوية ، وليست صلبة ولا هي سائلة ، ولا مجهرية…إنها” نفايات” السلوك والأخلاق والأفكار والمعاملات”

لعل في الكثير مما نقول أو نكتب أو نتعلم ونعلم ما يشبه النفايات إلى حد كبير ، و لا أدل على ذلك أكثر من تصرفات بعضنا تجاه الآخر حينما يغيب تقدير الإنسان حيث هو إنسان بغض النظر عن مستواه الاجتماعي والتعليمي والثقافي وموقعه في هرم المسؤولية أو السلطة.

فالعلاقات بين الناس في بلادنا، كما في غيرها، تترجم – في غالب الأحوال – أحكاما مسبقة على بعضنا مبنية على أساس الغنى والفقر والسلطة وموقع المسؤولية والقرابة والزبونية والمظهر وجمال الوجه ونوع اللباس والسيارة والحي الذي يسكنه وغير ذلك مما لا يمت بصلة إلى قيمة الإنسان الحقيقية .

وهذا ما نلاحظه – مثلا – في علاقة صاحب المعمل بالأجير والمعلم بالمتعلم من المدرسة الصغيرة إلى الجامعة الكبيرة، وفي مراقبة حركة السير والمحاكم والمحلات التجارية ووسائل النقل وفي المستشفيات الخاصة والعامة وفي كل مكان باستثناء شاطئ البحر والحمام الشعبي حيث يستوي فيهما الذين يملكون والذين لا يملكون ، مع أنه يجب ألا ننسى أن الإحساس بهذه المساواة العابرة يتبخر بمجرد عودة الثياب فوق الأجساد.

ولذلك فإن كثيرا من الأفكار التي يحملها الإنسان تجاه غيره والتي لا تعطيه قيمته الحقيقية يجب أن ترمى خارج العقول كما ترمى النفايات والأزبال خارج المرافق الاجتماعية والبيوت، لأنها لا تساهم إلا في تخلفنا وتراجعنا .

فكثير من الكتب والمجلات والجرائد والمحطات الإذاعية والقنوات التلفزية تبث ما يشبه ” الأزبال و”النفايات” التي تضر بالعقل والسلوك بنشرها معلومات وترويج أفكار وأخبار وإشاعات لا تفيد المواطن في شيء سوى إشغاله وإلهائه عن التفكير السليم ، وكثيرا ما نجدها مغلفة بالحرية والحداثة والليبرالية وحقوق الإنسان أو بالحفاظ على تقاليدنا ومقدساتنا الدينية، وكأن الجمع بين الاتجاهين من سابع المستحيلات.

فالحراك الذي يعرفه المغرب وكثير من دول العالم حراك لا يختلف عاقلان في مدى إيجابيته ، وما تعيشه الأحزاب والنقابات والجمعيات من تفاعل مع المرحلة ،لا شك، مفيد، غير أن في هذا و ذاك كثيرا مما يجب التخلص منه وإتلافه كما نتخلص من النفايات والأزبال.

فالمطلوب من المحللين السياسيين، و رؤساء الأحزاب، والدعاة والأئمة والشيوخ ، والناطقين باسم الهيئات الحقوقية والمجتمع المدني، والوزراء والبرلمانين أن يتسلحوا جميعا ، كل حسب موقعه، بوسائل القياس المتقدمة التي تراعي الظرفية قبل أي تعليق أوتصريح، حتي لا يقولوا ما يستحق أن يرمى في ” مزبلة الأفكار” ، وهي مزبلة تختلف كثيرا عن مزبلة النفايات التي نتخلص منها بالنار والمواد الكيماوية أو الدفن أو الرمي في عرض البحر، فالأفكار تسري بين الناس سريان الدم في جسم الإنسان ، وتتولد عنها مواقف تنتشر بين الأجيال إلى أن تصير جزءا من كيان أبناء الوطن .ولذلك وجب علينا اختيار الأفكار التي ندافع عنها ،وتجاوز” أدبيات” الانتماء الحزبي أو الجمعوي أو القناعة الإيديولوجية، واستحضار الانتماء إلى الوطن في كل قول أو عمل ينشر بين المواطنين.

2 / 3

وإذا كان وصول المعلومة و الدفاع عن الحقوق والأفكار والمبادئ حقا مشروعا ومكفولا للجميع، ، فإن هذا الحق يقابل بواجب حماية الأفكار المستقلة وحرية الاختيار والانتماء ، فهل يستحضر المتحدثون في وسائل الإعلام جميعهم هذه المعادلة؟ لا شك أن الجواب ليس واحدا…وإنما لكل متتبع جواب يجديه أو يشفيه أو يغنيه…

 

وعلينا ألا ننسى المتلقين ومستوياتهم و أعمارهم ، وعلى المدارس والجامعات أن تنخرط في حراك ” تصفية” الأفكار بتسليح المتعلمين والطلبة بالمنطق السليم الذي يمكنهم من النقد البناء للمعلومات والأفكار وتجاوز ” محنة القراءة” ، قراءة كل شيء، وتخزينه في العقول من غير غربلة أو تأمل أو تحيين أو ملاءمة للمقام والسياق والمرحلة…

فما أكثر الأفكار التي حملناها من مفكرين كبار في زمانهم ، لم تعد صالحة بميزان المرحلة ، والأولى اليوم أن تجمد أو تستثمر أو تحفظ او تغربل وتحين ، تطبيقا لقاعدة “ما لايدرك كله لا يترك جله”، وعلينا أن نستفيد من المتغيرات التي تقع في العالم في مجال الثقافة والاقتصاد والسياسة والهجرة و”الاستعمار”، فنغير بذلك ما يجوز تغييره في حدود ما لا يتنافي مع طبائع الأشياء . لقد سقط جدار برلين وصار كثير من الأعداء “أصدقاء” في الداخل كما في الخارج ، وتحالف حزب العدالة والتنمية مع جزب التجمع الوطني للأحرار ، وكثير وكثير من المتغيرات في السياسة والاقتصاد والفكر والمجتمع والسلوك ، ونظام الغذاء والخدمات والاتصال … فلماذا لا تتغير مع كل هذا وسائل قياس الأفكار والسلوك والمعاملات ؟ وإلى أي مرجعية نحتكم ؟ وكيف يحصل التوافق بين المرجعيات ؟ أم أن الأمر مستحيل؟

لا شك أن ما قطعته الإنسانية في مجال حماية الغذاء والصحة والخدمات والاتصال من ” الأمراض” الطارئة والمزمنة ، وما توصلت إليه من نتائج مذهلة في التخلص من النفايات الطبيعية والصناعية وإقبارها يدعوها إلى البحث في وسائل كشف نفايات التفكير والمعاملة والسلوك من أجل إنشاء مزبلة للأفكار المدمرة مهما كانت صغيرة ، ومنعها من أن تكبر وتصير خطيرة .

ولعل المتأمل في أحزابنا ونقاباتنا وجمعياتنا وفرقنا الفنية والرياضية و المرافق العمومية والخاصة سيجد كثيرا من “النفايات ” التي تأخرنا في وضعها في مكانها الحقيقي الذي لا يستحق أن يكون إلا مزبلة بمواصفات مناسبة للمرحلة، ذلك أن بعضا لا يستهان به من “القياديين” و”المسؤولين” لم تعد لهم ضرورة لولا أنهم غرسوا وكرسوا في عقول الشباب أفكار التيئيس و الانهزامية و ” تحريم” النقد والانتفاض ضد الرتابة ، وهي صناعة “لمرض التعود” الذي يجعل الناشئين مقتنعين بأن سابقيهم أعقل منهم وأقدر على التسيير، وكأن الأمهات الأخريات لا حق لهن في إنجاب النجباء والنبغاء والقياديين.

والحق أن هذا الأمر لا يستحق كثيرا من البحث أو الدراسة أو الإحصاء ، لأن نظرة عابرة إلى النقابات والأحزاب والجمعيات تكفي لا ستنتاج استحواذ فئة دون غيرها على الزعامة أو القيادة والكلام والتحدث باسم الآخرين وهي – هذه الفئية – مطمئنة على مكانتها ولا تتوقع، من تابعيها، من ينتقد تصريحاتها أو قراراتها بمناسبة أو بدونها.

ولعل ما يعرفه المغرب اليوم من سباب وشتائم بلا حدود بين قياديي بعض التيارات السياسية والأحزاب والنقابات ، وما يكتبه بعض المحللين السياسيين والأساتذة الجامعيين ، وما يطبع ذلك من اختلاف إلى درجة النقيض يضعنا أمام تساؤلات متعددة ومتباينة حول جدوى كل هذا في حياة المواطن المغربي الذي ينتظر حلولا واقعية يعيشها يوميا على الأرض بدل هذا التضخم والفائض من التحليل ووجهات النظر المتضاربة .

لقد صارت الحاجة – كما كانت دائما- ملحة إلى اختزال الطريق من أجل أن ينعم المواطنون بحقوقهم في الأمن و الشغل والصحة والتعليم وخدمات المرافق الإدارية ، والحرية في الانتماء الجمعوي والنقابي والحزبي بالمشاركة والتغيير لا بالتصفيق والتصويت والانتظار.

كما أن على المنخرطين ” الكبار” في صناعة الانتقال الديمقراطي بالمغرب أن يغربلوا أعمالهم بغربال مصلحة الوطن وأن يعترفوا بأنهم – مثل كل الناس- قد يخطئون أو يقولون كلاما لا مكان له إلا المزبلة، وعليهم أن يدركوا أنه إذا كان من العلوم والفلسفات والمعرفة والفنون ما استحق البقاء فدونه المخلصون من أجل الخلود، وإذا كان منها ما وضع في سلة المهملات لفترة كي ينبعث من جديد ، فإن كثيرا من الأفكار لا تستحق أن تكون أصلا، وأن مكانها الطبيعي هو المزبلة.

فكم من أفكار ومعارف غثة تزاحم أخرى سمينة في رفوف الخزانات والمتاحف والمكتبات والأرشيفات وهي لا تحمل للإنسانية غير الدمار والخراب ، وكم من أفكار نيرة ما زالت حبيسة الرؤوس لم يكتب لها الخروج من ظلمات الجماجم، وهذا يعني أنه ليس كل

3 / 3

معروف نافعا وصالحا ، ولا كل مغمور ضحلا واهيا، ومن حسن حظنا أن التاريخ أمين يسجل كل شيء في خانتين متوازيتين : واحدة للسجلات الصافية وأخرى تسمى ” مزبلة التاريخ”.

إن بيننا وبين التاريخ عقدا قاسيا لا يرحم : فمن حقه علينا أن نفعل ما يستحق التأريخ ، ومن حقنا عليه أن يسجل ما نفعل.ولا حظ للمنزلة بين المنزلتين.

حسن برني زعيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى