قــــراءة في كتاب “الصحافة والتاريخ” للمؤرخ الطيب بياض
(الحلقة الثاثة : الــــمـــال والــمــآل)
بقلم ذ. محــمـد أمـقــران حـمــداوي
شرعت في قراءة كتاب “الصحافة والتاريخ” للمؤرخ والأستاذ الجامعي الطيب بياض ، وجدت فيه زخما من المعلومات القيمة . أول شيء استرعى انتباهي هو اللغة الأنيقة التي يمتلك بياض الطيب ناصيتها وأدوات صنعتها ؛ فالكاتب كيفما كان تخصصه وكيفما كانت قيمة الأفكار التي يطرحها ويدافع عنها لن يستطيع الانفتاح على القارئ إذا لم يصرف خطابه في وعاء أدبي ممتع. وهذه ميزة أساسية تضمن لكتابات الطيب بياض حفاوة الاستقبال وكبير الوقع في نفوس القراء وكثير النقع في صفحات أعـرق الجرائد والمجلات الثقافية والتاريخية . ألم يقل نجيب محفوظ 🙁 بدون أدب تبقى المعرفة ناقصة ويتيمة وضعيفة) ، ألم يقل د. الطيب بياض نفسه : (اللغة السلسة هي التي تجعل التاريخ محتضنا بيسر من طرف الصحافة وتحول قلم المؤرخ المتكلس ولغته الخشبية التي عادة ما تثير النفور وتجعل بضاعته كاسدة إلى انسيابية شلال دافق يغري بالإقبال عليه والنهل من معينه …).
بين ولع القراءة وشغف الإبداع والإعجاب بالمقروء وجدت نفسي بين أحضان “الصحافة والتاريخ” ؛ وهو عنوان كبير أثارتني فيه مجموعة من العناوين الصغيرة التي آثرت إعادة قراءتها بوازع قيمتها وأهميتها ، وبذريعة ما تخفيه من دلالات وأقنعة تجعل القارئ يحس أن كاتبها أحدث فعلا ثورة علمية في الكتابة التاريخية بطريقة علمية ومنفتحة على جميع العلوم ، ما جعلها مستساغة لدى القراء من تخصصات مختلفة .
في هذا السياق أسعد بلقائكم في فسحة ثقافية من أجل قراءة وتأمل وتذوق ما ورد في عناوين الكتاب.
ومن هذه العناوين اخترت لكم في رابع حلقة : الــــمـــال والــمــآل
في سنة 2014 استبشر المغاربة خيرا عندما استرجعت الحكومة المغربية مبلغا مهما من الأموال المهربة ( ملايير الدولارات) ، كشف للمتتبعين والخبراء والمحللين عن خيار براكماتي في التدبير ألا وهو خيار عدم المحاسبة . وهو في نظرنا خيار مشحون ومعقد ساهمت في ميلاده أساليب تدبيرية غير نزيهة ، وزكته مقولة جرت انتقادات لاذعة على الحكومة السابقة ، وضجت وارتجت بها صفحات الجرائد الوطنية والدولية ألا و هي ” عفا الله عما سلف” .
وتهلل المغاربة بشرا مرة ثانية عندما هوت أسعار النفط إلى مستويات قياسية جعلتهم يحلمون أن المغرب سيصبح في غنى عن المؤسسات الدولية المانحة وأن المرور من نظام المقاصة إلى نظام المقايسة سيكون مرنا ، لكن ضعُــف الطالب وبعُـد المطلوب كما جاء في قول المؤرخ الطيب بياض ( وجعلت المرور من دعم صندوق المقاصة الى تبي نظام المقايسة … يمر بنوع من السلاسة دون أن تُسجَّل ردود فعل قوية على الزيادات الناتجة عن رفع الدعم) ص114
وتفاديا لكل احتقان قد يرافق الزيادات الناتجة عن رفع الدعم فكرت الحكومة في تعويض الفئات المتضررة من ذوي الدخل المحدود الذين أرهق كاهلهم لسنوات بسبب ثقل أسعار المواد الأساسية ، لكن عندما أدركها صباح اللوبيات النافذة سكتت عن الكلام المباح فيما يتعلق برفع الدعم عن غاز البوطان الذي تستفيد منه الفنادق والمطاعم وقطاع الفلاحة . وهنا يتساءل الدكتور الطيب بياض : فماذا عن الفئات الاجتماعية المصنفة نظريا في خانة الطبقة المتوسطة ، وهي على مستويات ؟ ص 114
إن الحديث عن المال ومآل المال في المغرب قديم / جديد وذو شجون ؛ فما بين 1880 و 1908م واجه السلطان مولاي عبد العزيز مشاكل عديدة أهمها فراغ خزينة الدولة مما دفع المغرب إلى الاقتراض من الدول الأجنبية وإلى فرض ضرائب غير شرعية (ضريبة الترتيب) ووجهت بالرفض من طرف الأعيان.
وبمقتضى معاهدة فاس 1912م وعدت فرنسا بتخصيص ميزانية مالية ضخمة لتأسيس نظام جديد في المغرب مشتمل على إصلاحات إدارية وعدلية وتعليمية واقتصادية ومالية وعسكرية ، لكن جرت رياح فرنسا بما لم تشته سفينة الإصلاح في المغرب ، الشيء الذي جعل الحركة الوطنية تتطور من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال .
وغداة الاستقلال عادت حليمة إلى عادتها القديمة في نفس الوليمة؛ حيث طرق المغرب من جديد أبواب نفس المانحين لمواصلة الإصلاحات ، لكن انتظارات المغاربة تكسرت فوق صخرة اختيارات اقتصادية كرست الفقر والجهل ، وعنها يقول د.الطيب بياض : ( تم تبني اختيارات اقتصادية كسرت أفق انتظار المغاربة وصلت ذروتها مع حرمانهم من إحدى وسائل الارتقاء الاجتماعي ، عبر بوابة التعليم ، الذي حاولت الدولة تقنينه مع مطلع سنة 1965م ، مما حرم شرائح واسعة من المتعلمين من استكمال المسار التعليمي العالي ، وبالتالي الحيلولة دون إخراج مجموعة من الأسر المعدمة من الفقر ، وتوسيع قاعدة الطبقة المتوسطة ص 115).
ومع بداية التسعينات نهجت الدولة سياسة الخوصصة (الخصخصة) التي درت عليها مداخيل هامة وظفت بعضا منها في معالجة بعض الاختلالات المالية التي جاءت نتيجة لانزلاقات في التسيير والتدبير ، لكن هذه المعالجة لم تعمر طويلا ولم تأت على الأخضر واليابس من الاختلالات لأنها تمت حسب قول المؤرخ الطيب بياض ” بمنطق ظرفي محكوم بإكراهات المرحلة “(ص 116) ، الشيء الذي عطل ورش الإصلاح الحقيقي حتى إشعار آخر .
وفي السنوات الأخيرة انتعشت خزينة الدولة بموارد مالية جديدة جعلت أعناق المغاربة تشرئب إلى المعالجة النهائية للاختلالات المالية السابقة ، لكن للأسف كانت الحصيلة أصفارا وحيدة على شمال الأرقام أو بعد الفواصل بدون أي نتائج أو أثر على ترشيد المال العام لأن بعض المسؤولين أصبحوا يسيرون قطاعاتهم أو إداراتهم ب “البركة” وبحكمة “كم حاجة قضيناها بتركها” وبسياسة ” أنا ومن بعدي الطوفان ” . وهنا يطرح سؤال المال والمآل . وفي عبارة أخرى : ما مآل المال المتوفر في خزينة الدولة ؟ أو بصيغة الأكاديمي الطيب بياض : (هـــل توظـــف (أي الأموال) بمنطق جزئي وظرفي محكوم بحسابات السياسة أم تستثمر برؤية شمولية استراتيجية محكومة برهانات التنمية والإقلاع الاقتصادي والتوازن الاجتماعي ؟) ص 116.
إن الوضع سيئ ويمكن أن نستشفه من ردود أفعال الطبقة المتوسطة (دينامو المجتمع) بمواقع التواصل الاجتماعي وحجم الانتقادات الموجهة إلى المسؤولين في قطاعات وإدارات واسعة ، وكم الصور والفيديوهات التي تعكس كوارث التسيير وعوادي تدبير المال العام ، ما يعتبر ناقوس خطر يهدد الطبقة المتوسطة بالتآكل إن لم نقل بالانقراض كما قال الخبير الكتاني أو بالتقلص كما قال الخبير والمحلل الاقتصادي أقصبي. ومن جانبه يذهب الدكتور الطيب بياض إلى أن التهافت على الارتقاء الاجتماعي بأي وسيلة كانت تعزى أسبابه إلى التآكل المفرط الذي أصبحت تتعرض له الطبقة المتوسطة في السنوات الأخيرة ، وهذا مؤشر واضح على أن الإصلاح الحقيقي الذي ينشد خلق مواطن منتج وفاعل لن يتحقق في ظل تقليص قاعدة الطبقة المتوسطة ؛ الطبقة التي تحرك عجلة الاقتصاد من خلال تسديد الضرائب لأنها الطبقة التي تدفع الضرائب ولا تتهرب منها بحيث يتم اقتطاعها مباشرة من الأجور. وهي الطبقة التي عُـرِفت تاريخيًا في جميع الدول بأنها تحرك عجلة الاستهلاك ، سواء على المدى القصير أو المدى المتوسط . يقول بياض : (الإصلاح الحقيقي الذي ينشد خلق مواطن الغد المنتج والفاعل وغير المتواكل يمر عبر توسيع قاعدة هذه الفئة…) ص116 .
ويتساءل الراسخون في شؤون الإصلاح في المغرب عن وضعية هذه الطبقة : هل هي غائبة بإرادة واختيار أم هي مغيبة عبر مجموعة من السياسات الرامية إلى إبعادها عن معترك الأحداث ، وهو ما اعتبره محللون صفيرة إنذار تأذن بتوقع ارتجاج قد يهز المجتمع المغربي وبإمكانه أن يؤدي إلى حالة من الفوضى الاجتماعية، على اعتبار أن الطبقة المتوسطة في كل المجتمعات تعد أحد العوامل الأساسية لانسجام المجتمع وتوازنه .
أملنا أن يواكب تطور الاقتصاد توسع الطبقة المتوسطة ، وإلا سنكون في مسار معاكس وسنفقد البوصلة أمام اختلالات صـــرصـــــر عاتية قد تحطم كل شيء حُــســـوما.